الجزائر : جيش أعرج، وحراك أبتر، ونخب صُمٌّ بُكْمٌ.

1 نوفمبر 2019

تبدو الساعة السياسية في الجزائر في شكلها الظاهر، أشبه بأسطورة سيزيف :

جيش او بالأحرى قائد أركان ونائب وزير الدفاع، «أدمن الخرجات» التي تحوّلت على مستوى الصورة، من «مجرّد مهمّة عسكريّة صرفة» إلى «تعلّة» لإعلان مواقف سياسية من الدرجة الأولى، ومن بعد إلى مجرد ««رافعة» لتلاوة بيان هو أقرب إلى «رد الفعل والجواب»، أو هو التعليق وإصدار بيان، من جيش لم يمارس ولم يعتد ولا يملك الأدوات اللازمة وخصوصًا «الغريزة» الضروريّة لدخول أو بالأحرى السقوط والتردّي إلى «معارك كلاميّة». تلاسن مع (بعض) الأحزاب ومع «أقلام» تدّعي تمثيل الحراك، مسّ صورة المؤسّسة العسكريّة برمّتها، ليتحوّل الشعار (لدى الجزء الظاهر أو الذي تروّج له وسائل إعلاميّة بعينها) من «الجيش ـ  الشعب : خاوه ـ خاوه» إلى «مدنيّة موش عسكريّة» [بمعنى ليست عسكريّة]، وغير ذلك من التوصيفات السلبية التي تستهدف المؤسّسة العسكريّة وقيادتها.

جماهير «أدمنت» الخروج الجمعة من كلّ أسبوع، لتتحوّل جزءا من «ظاهر لعبة»، دون إدراك أنّ «ذات» هذه الكتلة البشريّة لم تعدْ واحدة، بل ما نراه لا يعدو أن يتراوح بين صورة الانفصام السيكولوجي وكذلك كيان ينطق الشيء ونقيضه، حين غلب «غبار المعركة» ما يدور داخل الحراك فعلاً…

أحزاب سياسيّة، سواء الموالاة التي لعبت قبل 22 فبراير الماضي ورقة «العهدة الخامسة» إلى أبعد حدّ، أو «معارضات» متراوحة بين مزايدة دون ملل، مقابل أخرى احترفت تربيع الدوائر، جميعها مدمن على «فرجة» التلاسن بين المؤسّسة العسكريّة، من ناحية مقابل «أصوات الحراك»، مع خروج  هذه من «مراقدها» كلّما حانت الفرصة، لتحاول من خلال «موقف عابر» أن تؤسّس «مواقف» تريد تصريفها في صورة «القرار الراسخ»، خاصّة ما تعلّق بانتخابات 12 ديسمبر القادمة.

Cاخطر ما في الحالة الراهنة، تقوقع الجدلية بكاملها، بل هو انغلاق كل طرف عند موقعه وعلى مواقفه. حراك يقدم نفسه في صورة «المقدس» أي أنّه يرفض النقاش، ويريد الاملاء، في مقابل جيش يريد من الحراك طاعة وقبولا دون القدرة ـ وهنا الخطورة ـ على ادراك مداخل الحراك ومخارجه، بمعنى فصل الخطاب من خلال تقاطع يضمن للجيش دوره وفي الآن ذاته يلبي مطالب الحراك او على الاقل يضمن ويؤمّن تجسيدا لمطالبه

اخطر من عجز الجيش عن التواصل، وعدم قدرة الحراك عن الفهم، ما نراه من عمى نخبة «كلامية» نصّبت نفسها وكيلة عن هذا الحراك ومتحدثة بلسانه، أو ـ وهنا الطامّة الكبرى ـ المؤتمنة على حقوقه، في مواجهة ما يرون (هم) من مخاطر تتهدد الحراك (من مؤسّسة الجيش خاصّة) وقد تعصف به.

أخطر ما في هذه الجماعة تعدّد الأصوات بل وتضارب ما تصدر من أصوات وتناقضها مع بعضها البعض، ممّا يؤكد أمرًا شديد الخطورة: أنّ الحراك تحوّل من روح لشعب رفض العهدة الخامسة وأراد على قاعدة هذا الرفض، التأسيس لدولة الديمقراطية وحقوق الفرد والشعب، وكذلك دولة الحقوق الاجتماعية والرخاء للجميع على قاعدة بيان نوفمبر المجيد،  إلى أشبه ما يكون «سوق الحرّاش» يوم الجمعة، أيّ صراخ من كلّ الزوايا دون فهم من يتكلّم.

Bانقلب المشهد : جيش غرق في خطاب لم يعد مقنعا للجميع، وحراك انقلب او انحدر من ذات واحدة جامعة، صاحب مشروع جامع الى «حراكات» لم يعد يجمع بين افرادها سوى وحدة الموعد ووحدة المجال الجغرافي، مع تباين في الشعارات بين المدن، وحتى تناقضها داخل الحراك الواحد، في ذات الجمعة وذات المدينة.

النخب المصرة على «إسقاط حكم الجيش» والعاملة وفق الشعار المرفوع «دولة مدنية موش عسكرية»، لا يحملون تصورا لهذه «الدولة» القادرة وفق رأيهم/حلمهم على ارجاع «الرانجارس» [الحذاء العسكري] إلى الثكنة وجعله (على شاكلة جيوش الغرب) مطيعا ومجرد «جهاز تحكّم عن بعد» بين أيديهم

أخطر ما في هذه النخب ذلك الهوس المرضي بالوصول الى الحكم في ذاته دون قدرة على التاسيس لفكر سياسي راسخ، كأن (وهنا الكذبة الكبرى) الوقوف في صورة النقيض لما يقولون أنّه «حكم العسكر» يجعل منهم «البديل» الشرعي والطبيعي بل الاوحد والوحيد…

الخلط المرضي بين ممارسة دور «النقيض» الموضوعي، مقابل إدّعاء القدرة على أداء دور «البديل» المفترض والمقبول وخاصّة المشروع، لا تعدو أن تكون سوى عمليّة تحيّل مفضوحة وحالة مرضيّة مزمنة وخطيرة، تستوجب العلاج. في المقابل لا يغني مؤسسة الجيش اعتصامه ضمن قناعات، تُلزم الجميع بالبديل الانتخابي، وتقدّمه في صورة «نقيض» حالة العطل التي تعيشها الجزائر، ومن ثمّة «البديل» لهذه الحالة القائمة.

هو تناقض شرعيات عوض تكاملها، جيش منذ اللحظات الاولى للاندلاع الثورة التحريرية اعتمد رنة البارود وزنًا، وعزف نغمة الرشاش لحنًا»، ومن ثمة يمثّل ضمانا للذات وللبلاد، وبالتالي، عمل منذ وصول بومدين الى الحكم أشبه بمن يملك «عصا سحرية»، يريد واعتاد أن «تكون الأشياء»، بمجرّد أن ينطق كلمة «كُنْ»…

الحراك ذاته جاء «قصوويا» على صورة جيش بلاده، بمجرد طرحه شعار «يرحلو قاع» [عليهم الرحيل جميعًا دون استثناء]، حسب هو الاخر أنّه يملك أو هو مسيطر على جدلية التاريخ ليحسب (منذ اللحظات الأولى لجمعة 22  فبراير)، أنّه (هو الأخر)، «كن فتكون الأشياء»…

Algerian shouts as he holds the national flag during a protest in Algiers, Algeria, Friday, March 15, 2019. Tens of thousands of people gathered Friday in Algeria's capital and other cities amid heavy security for what could be decisive protests against longtime leader Abdelaziz Bouteflika. (AP Photo/Toufik Doudou)

النخب الكلامية هي الاخرى تحمل في دماغها حلم «كن فيكون»، حين يمكن أن نستخلص من الكتابات أنّ الكلام والحديث اكثر عمّا يجب أن يكون أكثر بكثير عن مقاربات سوسيوسياسية تنظّر لكيفية الانتقال من «حكم الرنجارس» إلى «حكم الاحذية المدنية» (المستوردة بالتأكيد).

إذا كانت مؤسسة الجيش تملك شرعية الماضي وقيمة اعتبارية حاضرًا، وتملك الرجال والسلاح والتنظيم، وإذا الحراك في بعده الاعتباري يملك شرعية الشارع والعدد وأنّ الشعب مصدر السلطات الاوّل، ومن ثمة الطرفان مؤهلان لأداء ولعب ادوار متقدمة، إلا أنّ الاول لا يزال عاجزا عن فهم أنّ صورة الذات غير مقنعة بذاتها في كل الأوقات، في حين عجز الثاني عن فهم وإدراك وبالتالي استبطان، أنه قوة وقامة بفعله وأدائه ومن ثمّة مردوده، وليس بذاته، ما يردّد بعض الذين يريدون استبدال ما يقولون أنّها «سطوة الجيش» بما هم يؤسّسون من «سطوة الحراك»، حين يتّهمون ويخونون كلّ الأصوات التي لا تسير في ركاب خطابهم

بين الاثنين (أيّ الجيش والحراك) يقف هؤلاء الذين يحلمون بإسقاط حكم العسكر وبالتالي الحالمين بتحويل الوصاية على الحراك من «افتراض كلامي ممكن وكامن»، الى «يقين قائم وفاعل»، دون فهم او على الاقل القدرة على قراءة المشهد الداخلي ضمن أبعاده الكامنة، سواء الحرب على الفساد (داخل الجزائر) وتأثيراتها الاستراتيجية على مشروع دولة يحلمون بقيادتها، وكذلك الابعاد الاقليمية والدولية الخطيرة للتحولات الجارية في الجزائر منذ يوم 22 فبراير، خاصّة فرنسا، التي يقلّلون من خطرها، تحت تعلّة أن التشهير بالعدوّ الخارجي يأتي خدمة مباشرة وهديّة مجانيّة لمن يرون أنّه «عدوّ الداخل» (أيّ الجيش)، بل ينعتون من يكتب عن ذلك بأنّه «لاعق الرونجارس»، يريد (وفق رأيهم) «الذهاب بالمعركة إلى غير ما يجب».

نخب لا ترى ما يقع في الخارج، سوى من خلال التماهي مع «تجارب» بلدان أخرى… يحلمون بل يكتبون أو هم يصيحون باعلى صوت، بضرورة نسخ «التجربة التونسية» واعتمادها في الجزائر، كأن التاريخ يقبل لعبة نسخ/لصق

هي معركة وعي وصراع تصوّرات، ونزال داخل ملعب، مركزه داخل البلاد وحدوده خارج الحدود. كلّ يرى من هذا الملعب ما اعتاد رؤيته وفق غرائز البقاء لديه، دون قدرة ـ وهنا الخطر ـ على الخروج وتجاوز حدود «الذاكرة» وتخوم «المصلحة»، قصيرة الأمد.

صورة «أزلام بوتفليقة» يرتعون ضمن المشهد السياسي، على أنّهم جزء من «الحلّ» من عبد المجيد تبّون إلى بلقاسم ساحلي وغيرهما كثير، تقطع وتناقض بل تنسف صورة «العدالة»، التي أعلن انطلاقتها وأشرف عليها ولا يزال يرعاها «الجيش الوطني الشعبي»، والتي قادت «قادة عصابة الفساد» إلى الحكم، لأنّ لا فوارق بين ساحلي وتبّون وأشباههما من جهة، ومن يقبعون في السجون. فقط توزيع مهام واختلاف أدوار داخل منظومة الفساد التي حكمت زمن بوتفليقة، لتصدم الصورة جزءا غير هيّن من عمق الحراك الذي أعلن شعار «رحيل الجميع»، ولم يستثن لا تبّون ولا ساحلي، كما قرّر من يمسك بخيوط اللعبة راهنًا.

صور الحراك الطاعن في شرعيّة المؤسّسة العسكريّة ومقامها وأساسًا دورها التاريخي وقدرتها راهنًا على أن تكون العمود الفقري، لدولة لم تعد تملك أو بالكاد مقوّمات الدولة، تُحوّل (هذا) الحراك، إلى مجرّد «سكران في حانة» يشتم النادل ويبصق في وجهه ليلا، ليعاود من الغد الاعتذار في ذل بين يديه، لأنّ يدرك (الحراك كما السكران) أنّ لا قدرة على الوجود دون (هذا) الأخر، ولا طاقة لأيّ منهما (الحراك كما السكران) على تدبّر الأمر بمفرده.

صورة «أقلام الحراك» في افتعالها الزعامة والقول بقدرتها أو بحلمها على تحويل «القول إلى فعل» أشبه بذلك «الهر الذي يحكي انتفاخاً صولة الأسد»، لا هي أخذت من الحراك ذلك التفويض التاريخي ولا الجيش قبل بها مخاطبا كفؤا!!!

صور الجزائر وهي تنزلق إلى «معارك جانبيّة» في تفادٍ لطرح الأسئلة المصيريّة، سواء عن انتهازيّة قصيرة الأمد بالتأكيد، أو خوف من «غول العشريّة السوداء»، يمثّل الخطر الأكبر، لأنّ الصراع سينقلب (كما كان أثناء العشريّة السوداء) من أسئلة مصيريّة إلى «توافه» الأمور، وهذا ما بدأنا نراه اليوم.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي