تونس : هل خسر الإخوان «درّة تاجهم» ؟

4 أغسطس 2021

يعلم راشد الغنوشي وهو يقين لدى من داخل النهضة يتقنون قراءة الواقع السياسي، أساسًا التحليل ضمن دوائر محليّة واقليميّة ودوليّة، استحالة العود بالأوضاع في البلد إلى ما قبل يوم 25 جويلية 2021 عشيّة، لحظة إعلان الرئيس قيس سعيّد تفعيل الفصل 80. من ذلك، جاء خطاب التنديد بما هو «الانقلاب» وما يتبعه من اشتراط «عود الأمور إلى وضعها الطبيعي»، مجرّد رفع للعتب أمام قواعد لدى تزال بين صدمة واندهاش، وجهات اقليميّة ودوليّة، كانت ولا تزال تساند النهضة.

وضح جديد بل طارئ نتج  عنه أو صاحبه ارتفاع الأصوات داخل الحركة، سواء للنديد بالتوجهات (بالمفهوم الاستراتيجي) التي اتخذها زعيم الحركة (على الأقلّ) منذ صدور نتائج انتخابات المجلس التأسيسي يوم 23 أكتوبر 2011، وما كان من أداء، أيّ «التوافق» مع الباجي قائد السبسي، وأساسًا ما آلت إليه الأمور في الأشهر الماضية (على الأقلّ) من انسداد للأفق السياسي، معطوف على أزمة اقتصاديّة خانقة، دون أن ننسى أزمة النظام الصحّي الذي لم تستثمر فيه الحكومات المتعاقبة (التي ألفتها النهضة أو شاركت في تشكيلها) ومن ثمّة عجزت البلاد عن الوقوف في وجه الجائحة.

من ذلك، بدأ يخفت سقف النهضة، بمروره تدريجيا من «توصيف الانقلاب واشتراط عود الأمور إلى سالف عهدها» إلى الاستعداد للتضحية من أجل «الديمقراطيّة» وأكثر من ذلك بغية الحفاظ على «الاستقرار» في تونس. القارئ للمشهد السياسي وكذلك لردود فعل النخب الإخوانيّة في تونس خاصّة على مواقع التواصل الاجتماعي، يرى إصرار على أمرين :

أوّلا : اعتبار ما أقدم عليه قيس سعيّد «انقلابًا» عسكريا أو هو دستوريّا «غاشمًا»…

ثانيا : لا حلّ ولا تنازل إلاّ بعود الأمور إلى ما قبل إعلان قيس سعيّد تفعيل الفصل 80…

TUNISIA, TUNIS - MAY 23: President of Ennahda movement Rached Ghannouchi (2nd R) greet supporters at the Olympic Hall in Rades after the congress of Tunisian Ennahda Party in Tunisia, Tunis on May 23, 2016. (Photo by Yassine Gaidi/Anadolu Agency/Getty Images)

وجب الإشارة إلى أنّ طيف غير قليل من الأحزاب والمنظمات والشخصيّات السياسيّة وذات البعد الحقوقي أو الأكاديمي، تراوح رفضها بين اعتبار ما جدّ «انقلابًا» لا يحتمل التأويل ولا يقبل النقاش، من جهة وبين التعبير عن «عدم الرضا» أو «التوجّس والريبة»، دون أن ننسى من يطالب (أو صار بالأحرى يطالب) بمجرّد التوضيح أو هو اشتراط خارطة طريق واضحة وجليّة.

رجوعًا إلى التاريخ، وجب الإشارة إلى أنّ نتائج انتخابات المجلس التأسيسي وضعت النهضة في المرتبة الأولى، لتكون أول تنظيم يحمل مرجعيّة «إخوانيّة» يصل إلى الحكم بفعل الربيع العربي، خاصّة وأنّ هذا البلد شهد اندلاع الشرارة الأولى لهذا «الطوفان» الذي هزّ الواقع في البلاد العربيّة بأكملها (بدرجات متفاوتة)، دون أن ننسى أنّ صورة تونس (التقليديّة) جاءت أقرب إلى الانفتاح والاعتدال، على اعتبارها بلد ليبرالي شديد التأثّر بأوروبا (فرنسا خاصّة)، يملك طبقة متوسطة معتبرة ونخبا ذات مكانة جدّ متميّزة ضمن الفضاء الثقافي العربي.

كما أثار وصول النهضة إلى السلطة سنة 2011 فضول العالم، الفضول ذاته أو أكثر أثاره قرار قيس سعيّد تفعيل الفصل 80، ليكون السؤال على درجتين :

أوّلا : كيف سيكون ردّ النهضة عمومًا وراشد الغنّوشي أساسًا، وهل من تأثيرات لهذا «الزلزال» على البنية الداخليّة للحركة؟

ثانيا : ما هو صدى هذا «الانقلاب»، وارتداداته ضمن الفضاء الإسلامي عامّة والتنظيمات ذات المرجعيّة الإخوانيّة خاصّة؟

على حواشي هذين السؤالين، نبتت أسئلة أخرى :

أوّلا : هل ما جدّ جاء نتيجة خيارات استراتيجيّة اتخذها الإخوان منذ اعدام السيّد القطب، أساسًا زمن الهضيبي والتلمساني على رأس التنظيم في مصر، بالذهاب في المهادنة إلى أبعد حدّ ممكن، واستغلال أيّ مجال مفتوح من قبل السلطة، بغية تأصيل الحركة في المجتمع والانغماس وسط دواليب الدولة؟

ثانيا: هل يتحمّل شخص أو جماعة (داخل الحركة) وبأيّ درجة هذه النتائج، وهل كان بالإمكان أفضل ممّا كان، عندما بقي راشد العنوشي يؤكد منذ سقوط حكومة الترويكا (على الأقلّ) أنّ لا بديل عن الوفاق سوى الوفاق ولا بديل عن التنازل (وفق معارضيه داخل الحركة) سوى مزيدًا من التنازل؟

ثالثًا : هل وجب داخل الحركة، العود إلى النهج المتشدّد والإصرار على توصيف التفعيل بالانقلاب على أساس أنّ سياسة المهادنة أوصلت الحركة إلى هذا الدرك الأسفل، أم أنّ سياسة المهادنة تأتي هذه المرّة «فعل ضرورة» (بالمفهوم الفقهي) حين وجد «انقلاب» قيس سعيد قبولا جماهيريا أقل ما يُقال عنه أنّه «محترم» ولم يأت أيّ تنديد واضح وجليّ بهذا «الانقلاب»، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، سوى تصريح تركي يتيم سرعان ما تراجعت عنه هذه الدولة؟

رابعًا : (عند توسيع الرؤية) ما هي تأثيرات «نكبة تونس» على مجمل الطيف الإخواني، خاصّة وأنّ تونس لديهم، تُعتبر «درّة التاج» سواء لبعدها الرمزي على اعتبارها فاتحة الربيع العربي، أو استمرار التجربة لعشر سنوات، أو (كذلك) مكانة راشد الغنوشي ضمن طيف القيادات الاسلاميّة، وختامًا سعي النهضة (منذ المؤتمر العاشر على الأقل) للظهور في شكل «الحزب المحافظ» دون أدنى مرجعيّة دينيّة، تزيد عمّا في دستور البلاد، خاصّة بعد الفصل (الرسمي والعلني) البعدين السياسي والدولي؟

مهما يكن واقع الطيف الإسلامي في تونس وجب الاعتراف بأنّ حركة النهضة تكبّدت خسارة فادحة، ليس فقط بفعل الفصل 80، بل عندما أقدم الرئيس قيس سعيّد على اتخاذ قرارات والمرور بها إلى التنفيذ، مثل عودة قطاع الفسفاط للإنتاج ونقل المنتوج عبر القطار. قرارات (وغيرها كثير) بقيت جميع الحكومات التي ألفتها النهضة أو شاركت فيها عاجزة عن اتخاذها، سوى لخوفها من ردود الفعل الجماهريّة أو حذرها من استفزاز لوبيات بعينها. ممّا قدّم صورة «الرئيس الفاعل» من أجل مصلحة البلاد، عزّزها اهتمام قيس سعيّد بالقدرة الشرائيّة للمواطن وسعيه للحدّ من ارتفاع أسعار الدواء أو نسبة الفائض البنكي.

هوس العمق النهضوي وخاصّة «النخب» الفايسبوكيّة على اعتبار ما جدّ مجرّد «انقلاب» يستوجب أو بالأحرى يتطلبّ «قوّة خارقة» تعيد الأمور إلى أصل المعادلة، معقول ومقبول بفعل الصدمة، لكنّه كما ثبت (في الحالة المصريّة) لم يقدّم إضافة ذات بال…

يقدّم هذا الاصرار (في أفضل الحالات) قراءة منقوصة، حين ينعدم النقد الذاتي العميق والشفّاف والعلني، عندما هو اليقين قائم بأنّ قيس سعيّد لم يقم بهذا «الانقلاب» في سويسرا أو فلندا، بل في بلد صارت فيها الحياة البرلمانيّة مجرّد «سيرك» بأتمّ معنى الكلمة، وتعاظمت فيه الأزمة الاقتصاديّة، ممّا جعل عمق غير هيّن ليس فقط يكفر بالديمقراطيّة (التي يقدّسوها النهضويون) بل صار هذا العمق يحلم بالفارس المغوار الذي يأتي على حصان أبيض، في صورة المنقذ من وضع يرونه مزريا ويرونه من هم السبب فيه، في صورة المجرمين الذي وجب القصاص منهم.  


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي