«ثورة جياع» سيشبعون، ويصيرون ضمن «التخمة الحاكمة».

16 مايو 2020

زار ضابط رفيع المستوى من بلد عربي، زين العابدين بن علي، زمن جبروته، وطالبه بــ«تخفيف الضغط» على المعارضين بعض الشيء، ليس من باب التنفيس أو تحسين العلاقة، بل رغبة في «تحسين صورة النظام». أجابه بن علي في حدّة وعنف : «في حال تركت لأحدهم مجالا للتنفّس، سيسعي للسيطرة على «القصعة» [الاناء الكبير، رمزًا للسلطة] وتناول ما فيه بمفرده». سكت بن علي لحظة وأضاف : «إنّهم جياع، لا يدركون معنى تقاسم السلطة»…

لم يكن الضيف يدري إن كان بن علي مقتنعًا فعلاً أنّ جميع المعارضين على بكرة أبيهم من صنف «الجياع» أم أنّه يتوهم صورتهم كذلك، لكنّ الأكيد وما يقبل الجدل، أنّ هذا «الجنرال» [الذي لم يقد طوال حياته وحدة مقاتلة] كان ينظر ومن ثمّة ينظّر في السياسة، على اعتبار البلد مجرّد «قصعة» لا تحمل من ملعقة سوى التي بين يديه. وحده يزدرد ما في هذا الإناء، وللبقية ما جاد به عليهم من «فتات». ديدنه في ذلك احكام القبضة من خلال عصا غليظة جدّا، مع بعض الفتات لمن يهزّهم الطمع.

 

بيّن التاريخ، أنّ «صانع التغيير» خسر الحكم، حين انقلب عليه وشمت فيه من حرمهم من تناول الطعام من «قصعته» فكانوا يوم 14 جانفي أشبه بالكلاب المسعورة التي عضّت يد سيّدها، وضحّت به لتستمرّ «القافلة»، بدون «بطل التحوّل المبارك» الذي عاش متيقنا طول 23 سنة أنّ لا أحد يجرأ على التقدّم بدونه أو دون إمرته.

كذلك كان كسرى فارس يعامل القبائل العربيّة الماكثة على تخوم مملكته، زمن الجدب. يقصدون دياره، فيأمر لكلّ منهم بصاع شعير، ولأميرهم بحصان. لم تكن غايتهم أبعد من ملء بطونهم لأيّام معدودات، حين لا يمكن للجوع أن يصنع سياسة.

téléchargementفي زمن الراهن هناك اختصاص أكاديمي يُدعى «أركيلوجيا الفنون» ويعني الغوص في كلّ ما يصل البشر من أخبار من سبقهم أو دلائل وجودهم مثل الأثار وغيرها، للبحث بين الثنايا عمّا يفيد عن نمط التفكير وأسلوب العيش وطرق التصرّف.

الذين ادّعوا «ثورة» نيابة عن «الجياع» في تونس راهنًا، ينطلقون من أنّ عدد «الجياع» ارتفع في تونس عددا ونسبة. أمر لا يمكن لعاقل أن يناقشه، لكنهم واهمون بل يعيشون خارج التاريخ حين يعتبرون أنّ «الجياع» سيثورون بفعل «الجوع» فقط، والأخطر من ذلك وأدهى أنّ «الجياع» سيعقدون راية القيادة لهم ويعتبرونهم «قادة الثورة» الذي وراءهم يقاتلون ومن أجلهم يموتون ولأوامرهم هم مطيعون.

من باب قراءة التاريخ بمختلف طبقاته، يتبيّن أنّ «ثورات الجياع» لا يقودها نكرات. بل يمكن اعتمادا على «ثورات الجوع» في المكسيك (مثلا) الجزم بأنّ الحرب داخل هذه «الثورات» أدهى وأشنع ممّا هي مع الطرف «المتخم» المقابل، حين أكلت هذه «الثورات» أبناءها في عنف قلّ نظيره، لأنّ «الجائع» القابع أدنى درجات سلّم الجوع لا ينظر إلى موائد من هم على «بشم»، فقط بل (وهذا ما فات «قيادات الجياع» في تونس راهنًا) إلى من يفوته مرتبة في سلّم الجوع، لأنّه يعلم بالحدس أو هي الغريزة أنّ هؤلاء (أشبه بجياع العرب أمام كسرى) سيبيعون «الثورة» مقابل «صاع شعير» ولسيدهم «حصان»… فيكون من أيسر القفز إلى فوق، من محاولة الوصول إلى الموائد العامرة مباشرة.

من الاجحاف أو هو التجنّي القول أنّ «ثوّار الجوع»، أي القيادة التي نصّبت نفسها وقدّمت ذاتها في شكل «صاحبة الربط والحلّ، تأتي ولا تمثّل سوى مجرّد «طبقة طفيلة» أو «جماعة انتهازيّة». هي كذلك بالتأكيد، سيقايض الواحد منهم أماني الرعاع وأحلام الدهماء بحصان أو بصاع شعير، ليس في ذلك شك، لكنّهم يمثّلون الامتداد الظاهر لما هي العقليات الماكثة والتي تعمل من خلالها جميع التشكيلات السياسيّة في البلاد، وأيضًا (وعلى أساسها) تعقد وتنفكّ «الروابط السياسيّة».

ما يسمّى «السياحة البرلمانيّة» هي الوجه السمح والنظيف لما تمارسه «قيادات ثورة الجياع» من انتهازيّة، حين لا يصدّق عاقل واحد أنّ جميع «سيّاح البرلمان» لم يفعلوا ذلك سوى عن قناعة يرقى مستواها إلى «إيمان الأنبياء»، وأنّ لا دخل لما يشبه «صيعان شعير» أو «عدد من الجياد». الفارق بسيط : انتهازيّة «السياحة البرلمانيّة» مغطاة بغلاف قانوني وتظهر في صورة أنيقة، في حين طمع وجوع وانتهازيّة «قيادات الجوع» تأتي جافّة ودون محسّنات جماليّة.

هي العقليّة ذاتها. البلد مجرّد «قصعة» يجب أن تغرف منها ما استطعت، كأنّك أمام «مغارة علي بابا» انفتحت لفترة محدودة جدا، مع فارق بسيط لكنّه هامّ وأكيد :

زمن بن علي، كان هذا الطاغية، لا يترك ملعقة أخرى تقترب من «قصعته»، بل كان يمارس الاضطهاد الاستباقي لكلّ من فكّر الاقتراب من دوائره، مهما كانت النوايا، فقط كان يقتصد في توزيع الفتات، في حين أنّنا في الزمن الحاضر، نعيش زمن «القصعة» الأرملة، التي يركبها من استطاع، وقد صار عدد الملاعق أكثر من أن يُعدّ، مع شحّ في الطعام المتوفر داخلها، لذلك نرى العنف في المعاملات السياسية، وأساسًا العنف اللفظي الشديد في خطاب «قيادات الجياع» الذين ما كانوا ليضيعوا الوقت بالحديث أصلا في حال وصلت أفواههم إلى الطعام. فقط هو جياع يريدون الالتحاق بالزمرة الحاكمة.

 

مع سؤالين :

أوّلا : ما هي سعة الحكم على احتمال عدد من يزدردون ما في القصعة ؟

ثانيا : إلى متى سينظر جياع الأسفل دون تحرّك، عندما لا همّ للواحد منهم سوى ذاته حصرًا ؟


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي