ثورة ليست كالثورات (الجزء الثالث)

19 ديسمبر 2015

سواء كنّا من المؤمنين بنظرية المؤامرة والمصدقين بها والمسلمين لها بالسيطرة، ممنّ يتخيلون أو مرأى العين لديهم، أنّ أعداء يعملون في الخفاء دون كلل، لا يضيعون لحظة ولا يتوقفون البتّة، أو كنّا ممّن يكفرون بهذه النظريّة ولا يرونها سوى من دلائل قصور العقل (الفردي أو الجمعي) عن تقديم قراءة «موضوعيّة» للأحداث، أو ربّما هو ـ كما يقول أطباء علم النفس ـ هروب عقل الباطن من مجال الثابت بالرؤية إلى منطق (المؤامرة) الحاضر دون حاجة للدليل، يمكن الجزم أنّ «المؤامرة» (ضمن جميع صورها) لا يمكن ـ بأيّ صورة كانت ـ أن تمثّل التفسير الأوحد والقراءة الأفضل للتاريخ، كما وجب الاعتراف كذلك، أنّ ـ ما يسمّى ـ «المؤامرة» (ضمن جميع صيغها ومجمل تعريفاتها) تأتي أحد الأجزاء المؤسسة للفعل التاريخ، سواء منه الظاهر أمامنا والمتجلي في شكلها المادي، أو ذاك الذي ـ كمثل الريح ـ ترى فعلها من خلال حراك الأغصان ونعجز عن تمثلها…

«المؤامرة» (التسمية كما المسمّى) تشترط وجوبًا، التأسيس لمعيار «أخلاقي» أو هو «وطني» أو «ثوري» (مع ما شابه من التسميات) لنحدّد على أساس ذلك سواء حدّ «الخير» في مقابل حدّ «الشرّ» وأيضا مجال «الصراع» بينهما دون أن ننسى «قاعدة الاشتباك» (المقبول)، ومن ثمّة ما يمكن أن تمثله هذه «المؤامرة» سواء في بعديها «المادي» (الذي عادة ما يكون خفيّا) أو «الأخلاقي» الذي يتحدّد وفق التخمين عادة (بفعل الخفاء) وليس التشخيص المباشر.

الثورة التونسية

الثورة التونسية

الناظر إلى ما جدّ يوم 17 ديسمبر من عام 2010 في مدينة سيدي بوزيد الكائنة في وسط البلاد التونسيّة، يلاحظ دون أدنى شكّ «جملة من الحقائق التاريخية» التي أصبحت ليست فقط في مجال «المقدّس»، بل غير القابل للنقاش، بل ـ وهنا الأخطر ـ الأساس الذي تأسّست عليه جملة من المفاهيم وأيضا الأحداث التي كرّت كحبات المسبحة، بشكل تسارعي، لتقيم لذاتها طقسا عقليّا وفضاء ذهنيّا، لا يرفض سواه فقط، بل يعتبر عدم التسليم «كفرًا»، حين جاءت «الأحداث» تؤسّس لعالم جديد، يحمل (من باب الافتراض) قطيعة مع ما سبقه…

يمكن الجزم أنّ وسائل الإعلام مثلت (عن معرفة ودارية أو مجرّد مجاراة) الأساس الأوّل الذي قامت عليه هذه «الحقائق الجديدة»، سواء حين جاءت تردّد المفاهيم وتنطق عبارات، أو عندما روّجت الأخبار، ممّا جعل الترديد يتحوّل إلى تسليم بهذه التسميات ومن ثمّة بجملة ومجمل المفاهيم الناتجة عن هذه «الصور الجديدة».

لا يمكن في الآن ذاته المرور مرّ الكرام على «هذه الحقائق البيّنة»… حقائق لم تغيّر التاريخ فقط، بل دفعت به دون رجعة ربّما في درب، لم يكن يتخيله، سوى من قيل أنهم يحركون الخيوط من خلف الستار ويصنعون التاريخ في الغرف المظلمة ويديرون العالم من الكواليس…

من الأخطاء الرائجة على مستوى التسمية أنّ من أشعل النار، يدعى حقيقة «طارق» (وفق هويّته ومضمون الحالة المدنيّة)، حين وجب التذكير أنّ اسم «محمّد» لا يعدو أن يكون سوى اسم الشهرة أو ما اعتاد الناس مناداته به، سواء في محيطه العائلي أو المهني.

أغفلت وسائل الإعلام الوثيقة الرسمية، وانساقت وراء التسمية الأولى، ربّما يكون الأمر (مهنيا) مقبولا، لكن عند الوفاة وصدور الشهادة الطبيّة، لا يمكن إغفال الأمر حين حملت كلّ الوثائق، سواء القبول في المستشفى أو شهادة الوفاة، ما تحمله بطاقة التعريف. لم تسع وسائل الإعلام لاستدراك الأمر أو حتّى التصويب أو ربّما إعلام المتلقي بالأمر، حين جاء الأمر نفيا لهذه «الحقائق» الذي صارت في حكم الثابت الذي لا يقبل النقض.

كذلك لم يحاول هذا الشاب التونسي أصيل مدينة سيدي بوزيد، محمّد/طارق البوعزيزي الانتحار حرقا، أو بالأحرى لم تكن له نية المرور إلى التنفيذ الفعلي والالتزام، حين سكب على كامل جسده مادة سائلة سريعة الالتهام وراح إلى مقر الولاية يشتكي من امرأة تعمل ضمن سلك الشرطة البلدية، صفعته وهزت رجولته وسط رفاق له في السوق، لم يجدوا سوى الضحك والسخرية، حين تطاولت امرأة استقوت ببدلتها الرسمية على شاب أرعن طعنها في شرفها حين ذكر ثدييها من باب المزاح والاستهجان…

كان الأمر مجرد «ردّ اعتبار» من الاثنين: فادية حمدي الشرطية أرادت أن تتجاوز هذا المجتمع البدوي من خلال بدلتها الرسمية ووظيفتها الحكومية وتذهب حدّ تطبيق القانون على رجل، لا يزال هو الآخر حبيس عقل البداوة، حين لا يمكن لامرأة أن ترتقي مكانة فوق رجل، فكيف تهينه، وتأتي الإهانة أمام أصدقاء العمل وجلساء الأنس. إهانة رجل كان لوقت قريب يمارس «حقه الطبيعي» في الاستمتاع بجسد (هذه) المرأة، وإن كان من خلال ذكر أعضائها (الحميميّة).

لم يكن طارق (أو محمّد) من أصحاب الشهادات العليا أو من هذه «النخبة» (العلمية) التي التحقت بالبروليتارية الباحثة عن رزق يومها، حين لم يذهب في تحصيل العلم سوى قليلا.

من الذي صنع صورة «الجامعي» الذي ارتدّ بائعا للخضار؟؟؟

من الأكيد أنّ العقل العربي، في مجال الصحافة، يبحث عن المثير، أيّ عن الصورة المثلى للتناقض في أرقى (أو بالأخرى أشدّ) درجاته:

ـ منطقة فقيرة مقابل شريط ساحلي غنيّ

ـ جامعي يمارس تجارة بسيطة

ـ فحولة تخضع لعنف المرأة،

ـ انتحار ينقض «شجاعة» الرجال.

كانت أو هي جاءت الوصفة «المثاليّة»، القادرة على «صناعة» أرقى وصفة صحفية يتمّ تسويقها في إعلام «الخليج» (قناة «الجزيرة»)، المتحرّر (أو هو يعلن ذلك) من كلّ قيم «البالية» لتمثّل هذه «المكوّنات» أو هي تحوّلت إلى «القنبلة» التي وجب تفجيرها في وجه النظام. نظام لا يخفي عداوته لهذه القناة، وقناة تبادله الشعور ذاته.

الاعلام الأوروبي جاء أقلّ عاطفيّة من «الجزيرة» ربّما لبعد «المسافة الثقافيّة» أو لنمط الصحافة في الغرب، حين أشارت من الأوّل إلى الأفعال دون الانغماس «العاطفي» أكثر من اللزوم أو هو المكشوف كما فعلت بعض القنوات العربيّة على شاكلتها.

على خلال صبيحة 7 نوفمبر التي صدرت بطبعات يوم 6 نوفمبر، واستدرك الاعلام الرسمي (مؤسّسة لابريس الحكوميّة) الأمر من خلال طبعة مسائيّة تمّ توزيعها مجانًا في الشوارع، بقي الاعلام الرسمي أيّاما عديدة (وليس ساعات) خارج منطق التغطية للأحداث الجادة في سيدي بوزيد وأماكن أخرى من البلاد.

لماذا كان الردّ أسرع زمن الصحافة التقليديّة وشديد البطء زمن القنوات الفضائيّة والانترنت والهواتف المحمولة القادرة على نقل الصوت من «أرض المعركة»، بل الأخطر نقل الصور وأشرطة الفيديو؟؟؟

اذا استثنيا الأماني والصلوات الحارّة، لم يكن أحد يحلم في تونس (بمعنى الحلم الواقع) أن يشهد في حياته سقوط بن علي (حين تستثني عامل الموت الذي عوّل عليه الكثير بل أكثروا من الدعاء والصلاة لذلك)، لذلك يمكن الجزم أنّ الجميع (أو يكاد) قبل بهذا الطاغية «قدرا لا هروب منه»، سواء المواطن البسيط المتراوح بين «الاندماج في منظومة النظام» في تراوح بين طمع بسيط وخوف شديد، أو (وهنا الطامّة الكبرى) النخب التي قبلت بحرب الاستنزاف الاعلاميّة مع النظام، الذي سيطر على الفضاء المادي (البلاد والشارع) وسيطرت هي على الفضاء الافتراضي (الانترنت) ووجدت لها مدخلا (أفضل من مدخل النظام) في عديد القنوات الفضائيّة…

يمكن الجزم بأمرين:

ـ نظام لم يكن يتخيّل اللحظة أنّ شرارة البوعزيزي ستسري في بنيته كمثل النار في الهشيم

ـ معارضة (أو معارضات) لم تكن تتخيّل أو تصدق أو تثق في قدرة الحراك الشعبي

السابق ( الجزء الثاني)

انتهى


20 تعليقات

  1. تعقيبات: merrell factory outlet

  2. تعقيبات: uggs for sale cheap

  3. تعقيبات: Millet outlet

  4. تعقيبات: Callaway Golf outlet online

  5. تعقيبات: louis vuitton on sale

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي