دستور الجزائر أشبه بدليل تشغيل آلة غسيل…

9 يونيو 2020

من يعتبر موضوع الهويّة خارج المسائل التي وجب أن يهتمّ بها الدستور الجزائري، ويريد من الشعب أن يتبعه ويتقاسم معه هذا الهوى، أشبه بمن يريد توزيع سلعة، تستعملها البشريّة جمعاء دون اعتبار للبلد أو الثقافة، أو هي المميزات الحضاريّة لهذا الشعب أو تلك الدولة.

«تسليع» الدساتير ليست بدعة جاء بها من طالب بالأمر في الجزائر وهزّ البلاد ولم يقعدها، بل هو منحى عامّ لمحو الفواصل بين الشعوب والقضاء على الخصوصيات الذاتيّة للأمم، تحتّ تعلّات متعدّدة، أبرزها «توحيد» المرجعيّة البشريّة، من باب «المساواة» والتوافق مع (ما يُسمّى) «المرجعيات الدوليّة».

تملك هذه «الجماعة/الجماعات» لوبيات قويّة في كلّ دول العالم، تنشط تحت شعار محو الحدود وتوحيد المرجعيات القانونيّة، وعلى رأسها الدساتير، بغية صناعة/صياغة وعي جديد، قائم على ذات المرجعيات، سعيا وراء إقامة «سلطة عالميّة» تحكم العالم، كما بشّر ولا يزال بذلك المفكّر الفرنسي «جاك أتالي» تحت إمرة وبتمويل من الملياردير جورج سوروس، حين يجتهدان ويبذلان مالا وفيرًا ويعملان في نشاط وعزيمة لجعل العالم مفتوح على بعضه البعض.

يعلم جاك أتالي كما جورج سوروس أنّ المهمّة ليست هيّنة، بل تتطلب أجيالا عديدة، لكنّهم يزرعون بذورًا يرون ثمارها بعد جيل أو جيلين، مثل اقتراح تجريد الدستور الجزائري من أيّ مرجعيّة تشير بأيّ صفة كانت. يكفيهم أن يتمّ طرح الموضوع من زاوية السؤال والتساؤل، ومن ثمّة يتمّ كسب جزء من الرأي العام الذي صار على اقتناع بأنّ المسألة، أي النزوع دون أيّ مرجعيّة تتعلّق بالهويّة، قابلة للدرس ومن ثمّة النقاش، ليكون القبول ضمنيّا، بمبدأ التخلّي (في البدء) عن هذه المرجعيّة أو تلك، تحت تعلّات عدّة، أبرزها يشير إلى مسعى الوصول إلى «كائن بشري» متحرّر من كل الارتباطات. أيّ الإنسان المثالي/الكامل الذي بشّرت فلسفات التفوّق في الغرب.

Amiroucheعندما ندقّق النظر في هذا «المنحى التجريدي» للمرجعيات عامّة وللدساتير خاصّة، نجد أنّها، وإن كانت تعبّر عن رفض لجميع الخصوصيات العرقيّة والثقافيّة وحتّى الحضاريّة دون استثناء، إلاّ أنّها تستبطن المرجعيّة الحضاريّة الغربيّة، القائمة على ثالوث «النبيّ اليهودي ــ الفيلسوف الإغريقي ــ المشرّع الروماني» في انغلاق ورفض ورغبة في تدمير بقيّة الديانات والفلسفات الأخرى وجميع التشريعات القائمة.

من أجل تحقيق هذه الخطّة، وقع الانتقال من «الحقوق» بجميع أصنافها إلى «الحريّات» دون حدود، مع ضبط «الحريّة» (الأسمى) المتمثلة في حريّة «الانعتاق» من كلّ الضوابط التي تعتبرها هذه الجهات «عائقًا» صياغة «الانسان الأمثل»…

عودًا إلى الجزائر، المصيبة تكمن في وصول هذه اللوبيات إلى المنصب الذي يحتلّه هذا «النبيّ» الذي يدري أنّه بالكشف عن مقترحه يكون قد كشف ذاته، ليكون السؤال عن حجم هذه الاختراقات ومدى تمكّن هذه اللوبيات من مقاليد الدولة.

المسألة أبعد من دستور، عندما لا تأخذ الدساتير معانيها سوى من درجة التصديق بها واعتمادها مرجعيا فعليا فاعلا. المسألة تخصّ الذهاب بالبشريّة جمعاء إلى شكل جديد من «الهيمنة» على الأفراد من خلال الوعي والإدراك.

تسكن هذه المحاولات عبر العالم، إلى حجم التوتّر في أيّ مجتمع كان، فيكون الخلاف/الاختلاف حول هذه القنبلة الموقوتة التي فجّرها هذا «العبد المأمور» فرصة لتستقطب جميع التناقضات، وليجد فيها هواة المعارك ممّن يختزنون كمّا هائلا من التوتّر فرصة للعب دور «المعارض» أمام أغلبيّة تناقضه الرأي. يكفيه في ذلك أنّه صار مجرّد طرف في معركة هو وقودها دون أن يدري.

يمكن الجزم أنّ هذا «النبيّ» الذي بشّر بدستور منزوع الهويّة، ما كان ليتسلّق درجات المسؤوليّة في دولة، ذات مشروع يقوم على التوازن ويعمل من خلال الاحترام ويتبنّى التشاور منهجا.

لذلك وجب العود إلى «الحراك الشعبي»، في ماهيته المؤسّسة : تأسيس دولة تقوم على مبادئ «فاتح نوفمبر». دولة العدالة الاجتماعيّة واحترام الحريّات الفرديّة القائمة على روح المسؤوليّة، سواء في بعدها الذاتي أو الجماعي…

دون ذلك ستنمو هذه الأعشاب الطفيليّة وستلوّث المشهد ليقتل الأخّ أخاه، في نسخة تبدو أمامها «العشريّة السوداء» مجرّد نزهة رائقة.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي