فرنسا لم تشف، ولن تُشفى أبدًا من مرض اسمه «الجزائر»…

15 يوليو 2019

فرنسا المتراوحة بين «مزايا الاستعمار» كما أراد نيكولا ساركوزي، والرغبة في طيّ صفحة الماضي دون «إعتذار» تستوجبه الأخلاق قبل التاريخ، لا تزال على مستوى وعيها الجمعي، ليس فقط «أسيرة» للحقبة الاستعماريّة التي جثمت خلالها على البلاد والعباد، بل (وهنا الخطورة) لا ترى في الأمر أيّ «فعل مشين» بل هي تريد طيّ صفحة الماضي، كأنّ الجزائر ـ حين نزل بها الجيش الفرنسي ـ كانت جزيرة في محيط بعيد، لا سكّان فيها، ومن ثمّة لا ذنب للفرنسيين قاطبة.

انطلاقا من أحداث الضواحي المتكرّرة مثل سرطان ينخر «الهامش الفرنسي»، مرورا بما هو «الإرهاب» هناك، وصولا إلى احتفال فرنسيين من أصول جزائرية خاصّة بانتصار «الوطن الأم»، لا يزال «الضمير الرسمي» ومن ورائه «النخب» ترى في اليد «العربيّة» وراء هذه الأحداث. فقد اعتبرت مثلا أنّ «احتفالات» جزء من الشعب الفرنسي من أصول جزائريّة بانتصار فريق «الدولة الأمّ»، تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الفرنسي، بل هناك من طالب بمنع الأعلام الجزائريّة واعتبارها «خارج القانون»…

سعيٌ الخطاب الإعلامي ومن ورائه وقبله السياسي، وراء «كبش فداء»، لا يعدو أن يكون سوى توطئة لفاشيّة جديدة، انطلقت (في شكلها الراهن) منذ اعتماد «مجلّة الشغل» الجديدة بعيدا عن السلطة التشريعيّة زمن الوزير الأوّل «إيمانويل فالس»، من خلال «الحيلة» 49.3 التي تمكّن السلطة التنفيذيّة من إصدار القوانين واعتماد التشريعات، بعيدًا أو في تجاوز للسلطة التشريعيّة بغرفتيها.

تمّ هذا «السطو» المفضوح زمن «مكافحة الإرهاب» الذي صادف وجوده وتزامن مع «اعتماد» المرفوض من قبل شرائح عريضة جدّا من المجتمع السياسي الفرنسي وكذلك النقابات وعموم الشعبي. أيضًا تجلّت هذه «الفاشية» السائرة في هدوء، عند كلّ «عمليّة إرهابيّة»، حين يتمّ التأكيد على أصول الجاني العربيّة أو الإسلاميّة، أو الاثنين معًا، علمًا وأنّ الغالبيّة العظمى من هذه «الشريحة الارهابيّة» وُلد ونما وترعرع وكبُر بعيدًا عن الجزائر، بل غالبيّة الغالبية منهم لم يزرها ولم يفكّر في زيارتها..

A protester waves and Algerian flag during a rally in support of the ongoing protests in Algeria against the president's bid for a fifth term in power, at Place de la Republique in Paris, on March 10, 2019. / AFP / Bertrand GUAY

الصحفيّة الفرنسيّة التي تسأل المراسل عند حادث دهس أدّى إلى وفاة سيّدة، إن كان للحادث علاقة باحتفالات «الجزائريين»، [انقر هنا لمشاهدة الفيديو] تسبطن ضمن سؤالها امكانيّة ذلك، دون أن تقدّم احتمالات أخرى، مثل أن يكون الجاني سكيرا أو أنّ الدهس ناتج عن خلاف عائلي، أو غير ذلك من الاسباب. أخطر ما في الأمر أنّ «كره الأخر» لم يعد لدى أصحابه موجبًا للاحساس بالذنب أو الشعور بالخطيئة، بعد أن مال «ثقل» الطبقة السياسية الفرنسيّة، أي «مركز التوازن» من نقطة بين اليمين واليسار، إلى أخرى بين اليمين العنصري (عنصريّة لايت) وأخر فاشي، لا يتورّع عن التشهير «بمن جاؤوا «يفتكون مواطن الشغل من الفرنسيين» (الأقحاح طبعًا)…

 

زاد الطين بلّة واشتدّت الأزمة منذ انطلاق الحراك الشعبي في الجزائر وبروز تيّار غالب بل هي ريح صرصر ليست فقط معادية لفرنسا فحسب، بل تعتبر أنّ البلاء الذي عاشته الجزائر طيلة فترة بوتفليقة، تأتي باريس مسؤولة عنه، أو هي في أقلّ الحالات شريكة شراكة كاملة، غير منقوصة.

بروز تيّار فاعل وصاحب نفوذ أساسه داخل الجيش الوطني الشعبي، معاد لفرنسا بالكامل، ويقف موقف الضدّ والنقيض من اللغة الفرنسيّة ومكانتها في البلاد، اعتبرته دوائر فرنسيّة عليا، ليس فقط تجاوزًا وتخطيا لمجمل «الخطوط الحمراء» (جميعها)، بل ـ وهنا الخطورة ـ تهديدًا مباشرا وخطيرًا لأخر جيوب النفوذ الفرنسي في العالم، حين صارت القارة الافريقية (الملعب الخلفي للشركات الفرنسيّة ونفوذ باريس) محلّ نزاع بل هو نزال، مع الصينيين وحتّى الهنود والأتراك.

دون تحامل وبكلّ المقاييس العلميّة والحسابات الموضوعيّة، يمكن الجزم أنّ فرنسا التي نرى ونشاهد راهنًا «بلد سائر في طريق التخلّف» Un pays en voie de sous-développement، حيث تجاوزتها الهند منذ سنوات مثلا، ناهيك عن الصين، ليكون السؤال الموجع والذي يأتي أشبه بما هو «الخازوق» بالنسبة لباريس : «إذا تغيّرت موازين القوى التي أسّست لتوازنات ما بعد ما يسمّى الحرب الكونيّة الثانيّة، فهل يجب إعادة صياغة توازنات بديلة، تعبّر عن موازين القوى القائمة راهنًا».

بكلّ المقاييس ومهما اختلف سلّم القياس وتباينت معايير التقدير، لا يمكن بل من سابع المستحيلات أن تنال فرنسا، في حال تمّ إعادة توزيع المناصب، ما نالته مع نهاية ما يسمّى الحرب الكونيّة الثانية. لذلك تأتي جميع التحرّكات الفرنسيّة ضمن ما تعتبره هي «مجالها الحيوي» متشنجة وغير هادئة، بل تقود إلى عكس المطلوب، سواء مثلما ما يحدث في مالي، حيث غرق الجيش الفرنسي وعمليّة «بركان» في رمال صحراء «دون أفق» لهذه الصحاري أو للمشروع الفرنسي هناك.

دون أن ننسى أنّ دول «الفرنك الفرنسي الافريقي» CFA ستطلق هذه العملة الاستعماريّة الفرنسيّة وتستعيض عنها بمباركة أمريكيّة صريحة بعملة جديدة. اليد الأمريكيّة واضحة في استغلال «السترات الصفر» وكذلك واضحة في إفريقيا على مستويين: غلق الأبواب التي كانت مشرّعة أمام النفوذ الفرنسي، وجعلها موصودة بجميع أقفال الدنيا، وكذلك العمل على أن تغرق فرنسا في مستقعات إفريقيا بدءا بجمهوريّة افريقيا الوسطى، مرورًا بالنيجر والتشاد ونهاية بمالي، التي لم تستقر الأوضاع فيها بعدُ.

 

مهما نتيجة الحراك في الجزائر، ومهما تمادت فرنسا في نفسها المعادي جهرًا لهذا الحراك، ومهما حرّكت اذنابها في الجزائر، يمكن الجزم أنّ باريس غادرت «المشهد الجزائري» أو هي أشبه بفريق كان يمارس كرة القدم المحترفة في أرقى البطولات، ليجد نفسه في أرذلها على الإطلاق…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي