بقلم الكاتب والباحث المفكّر: عبد الحق الزموري
______________________________________
إلى القراء المحترمين:
هذا النصّ الذي أنشره للصديق المفكّر والباحث عبد الحقّ الزمّوري، رائع على أكثر من مستوى: أوّلهما أنّه يثري معارفي بزوايا لم أكن أراها في المقال موضوع الكتابة عن النهضة عمومًا وعن الغنوشي بصفة خاصّة. ثانيا أنّه يفتح ويفتتح مجالات معرفيّة مبتكرة، ليس فقط تدفع للبحث والكتابة، بل هي «تستفزّ» [ضمن المعنى الجميل] من يملك عقلا…
فضل الكاتب الصديق عبد الله نزول مقاله منفردًا عن الردّ الذي كتبته بخصوص مقاله، وله ذلك من باب احترام الصداقة وتقدير الأخوّة وما له من منزلة ليست لسواه بلاء استثناء… القرّاء بإمكانهم الاطلاع على المقال الردّ
الغنوشي: خليط من «ميسي» و«رونالدو»، لكن يسجّل ضدّ مرماه…
[انقر على العنوان للحصول على المقال]
كما هو النحل الذي في طيرانه يلقّح الزهر. أرجو بإسمي واسم عبد الحقّ الزمّوري وكذلك الشاعرين الرقيقين البحري العرفاوي والخال عمّار الجماعي، أن تكون نصوصنا مدعاة للتفكير ومنارة للتدبّر وخاصّة أن تجعل القارئ يملك جرأة السؤال وجسارة الذهاب في مجالات لم يلجها من قبل…
نصر الدين بن حديد.
______________________________________
لم أكن لأحزم أمري معلّقًا على مقالة الصديق العزيز نصر الدين بن حديد الأخيرة «من الغنّوشي إلى طارق رمضان: مزالق الشبهات ودلائل الاشتباه» لو لم يتصدى الفاضلان الشاعران البحري العرفاوي والخال عمار إلى قطع الطريق على «الناهشين» و«المطبّلين» في آن، وجرّ الجميع لمناقشة الأفكار الواردة في/حول المقالة المذكورة.
ولأنني من أولئك الآخذين بالرأي القائل بتلازم المبنى والمعنى، أي بعدم وجود الفكرة خارج اللغة (معاني وصياغات)، وبعدم احتمال وجود «خطاب بريء» (جوليا كريستيفا)، ومن بين الرائين (من الرؤية) بأن كل مَقُولٍ (بقطع النظر عن الحامل) لا يعدو كونه «استراتيجيات خطاب»، فإني أشاطر بعضا مما صدّر به «الخال عمار» تعليقه بخصوص أسلوب نصر الدين ولغته التي حملت استراتيجيته، أو تلك التي حمّلها ما اعتقد أنه استراتيجيات خطاب من قارن بينهما. لن أتوسع في هذا المربع، فمجال ذلك غير هذا الحيّز.
ما أتوقف عنده في هذه المساحة البسيطة أوجه المقارنة التي أقامها نصر الدين بين طارق رمضان وراشد الغنوشي، وطبيعة «الرسائل» التي أرادها الكاتب (اعتقدَ) تعبيرا عنهما، وترجمةً لمسارَيْهما.
في المبنى المُخلّ بعقل المناطقة
الملاحظة الشكلية الأولى التي أسوقها، وهي ذات دلالة بالغة بحسب المنهج الذي أعتمده في التحليل (أنظر أعلاه)، هي الاختلال «الفاضح» بين حجم الحديث عن الرجلين. ورد عرض نصر الدين لأفكار راشد الغنوشي وتحليلها في حوالي 58 في المائة (42 سطرا) من المجموع، في حين لم يحُز طارق رمضان إلا على حوالي 13 المائة، من المساحة (9 أسطر)، إضافة إلى 3 أسطر لإقامة مقارنة مباشرة بين الرجلين. يفرض هذا الاختيار علينا بالضرورة نوعا من الاستنتاجات (ولا يقلل ذلك من حق أخي نصر الدين المطلق في اعتماد ما يراه) تدفعنا الى اعتبار الاعتماد على استدعاء رمضان في المقال مجرد وسيلة جزئية «تزيّن» استراتيجيات خطاب بن حديد، لا غير، ولا يقوم مقام الشريك في المقارنة. وبالتالي فقد كان الأجدى بنصر الدين (وهو قادر على ذلك) التوجه مباشرة الى تفكيك العقل النهضاوي ممثلا في فكر راشد الغنوشي دون «محسّنات» يحسبها الضمآن ماء حتى إذا أتاها لم يجدها شيئا. أنا هنا لا أهوّن من جهد الكاتب في التفطن لمنهجين في التعامل مع الغرب، ولكني أعتقد إن الإفادة في المنهج التفكيكي تكمن في ثقافة الوضوح التي يؤسس لها وليس في ثقافة الإلتباس التي يمكن أن تَحُول دون التعدد والقبول والتسامح (أنظر توماس باور).
بعيدا عن قراءة النوايا
نأتي الآن الى جملة الأفكار التي عرضها بن حديد على أنها منهج حركة النهضة (كممثل للإسلام السياسي) القائم على أفكار زعيمها راشد الغنوشي في تعامله مع الغرب (ويؤكد في عديد المواقع من نصه أن المقصود به فرنسا). هنا أيضا يُفقِدُ الكاتب نصّه بالمصادرات “الماهوية” التي استهل بها عرضه متحدثا عن الغنوشي دون تصريح:
«(…) لا ثوابت بيّنة ولا أسس قائمة ولا مرجعيات ثابتة، حين صار الانتقال من موقع إلى ثان وأساسا ما يساق من تبرير بحساب «كل قفزة» أهم .. من التحولات الكبرى بين نقطتي الانطلاق والمنتهى .. في علاقتها سواء بالمرجعيات الدينية المعتمدة أو الثوابت الأخلاقية المؤسسة، لأن «أهل القفز»… لا يملكون شجاعة توسيع الرؤية واستعادة المشهد واستجماع المعادلة لطرح أسئلة مصيرية بل محتومة عن «شرعية المسار» أو «المصالح المحصّلة» (افتراضا) أو حتى «السند الديني/الفقهي/الشرعي» أو حتى الأخلاقي القادر على تبرير هذا «التيه»” (هو تيهٌ فعلا) … لنقف على حجم التناقض بل التضارب أو هو «الانقلاب» [على الذات] إن لم نقل «الانفصام» [المرضي]…»، قبل أن يعرض حتى لموضوع مقاله !!!
يبدأ الإشكال في محاورتي لنص أخي نصر الدين الذي أكن له كثيرا من الاحترام وأقاسمه كثيرا من الآراء، في الاتفاق حول توصيف الغنوشي نفسه: إلى أي فئة ينتمي ؟ وتحت أي خانة نصنفه ؟
هو يُقَدَّمُ كــــ«مفكِّر» وكــ«شيخ» وكـــ«داعية» وكــ«سياسي محنك» وكـــ«زعيم» ….الخ. ويتناوله صاحب المقال باعتباره صاحب منهج وواضع رؤية للتعامل مع الغرب، قائمة على الانبطاح المستمر أمامه، واستعمال سياسة القفز، والإصرار على عدم تقييم ما يذهب إليه. لست هنا في وارد تقييم استنتاجات الكاتب، ولكني أشير ـ فحسب ـ إلى أن المتمعن في كتابات الغنوشي الفكرية يجدها (إذا ما اعتبرها إنتاجا للمعنى) محكومة بـــــ«قانون» يلتزم به الرجل ويُلزم به نفسه، ويصرّح به في عديد كتبه، ومنها كتابه «الحريات العامة في الدولة الإسلامية». الرجل مسكون في كل ما يكتب وما يفعل وما يتخذ من مواقف بهموم ثلاثة: همّ الفكرة / وهمّ أدوات التغيير (الحزب / التنظيم) / وهمّ الواقع المرجو تغييره.
ولأن كل نصٍ خطابٌ، ولكل خطابٍ ـ بالضرورة ـ استراتيجيات ظاهرة أو مُضْمَرَة، فلا بد ـ عند النظر في الفكر السياسي للغنوشي ـ من تجلية استراتيجيات ذلك الخطاب بما هي فرز بين اختيارات واعية أو خفية أولا، ومن تتبّع أثر تلك الاستراتيجيات في البُنى الذهنية والنفسية والتنظيمية في المتلقّي الأول الذي يتوجه له (الصف الإسلامي كما يسميه)، وفي العلاقة بــ«الشبكات»، أي شركاؤه من الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين والثقافيين في الساحة التونسية من غير الإسلاميين ثانيا، وفي مدى تعبيره عن واقع محدد يستجيب لطموحاته ويكتسب ضمنه صفته كفاعل اجتماعي ثالثا؛
لن يستقيم مقول نصر الدين عما اعتبره منهج الغنوشي في علاقته بالغرب إلا إذا أخضعناه الى هذه الشبكة «المتداخلة» من القراءة الموضوعية لما سماه عبد التواب عبد الله بـــــ«مناطق محل الاشتباه» في فكر الرجل (يطلق عليها الغنوشي نفسه المجالات الفارغة)، والتي من ضمنها ـ بحسب تصنيفات هذا الأخير لها ـ العلاقة بالغرب حضارة ومنتوجا سياسيا يفرض عليه نفسه، والتي نعتقد أن أبرز تجلي لها الكتاب الحواري الذي أصدره مع رافانيللو والذي أشار له بن حديد في مقاله.
لن نفهم ما يأتيه الغنوشي اليوم في المسرح السياسي (بعيد عن التعظيم والترذيل) بدون التخلص من اعتبار الأفكار المتداولة «أجساما نورانية تحلق في الفضاء»، والبحث عن اعتبارها صراع قوى اجتماعية (ظاهرة أو مُضمَرَة بصدد التشكل) يبحث له عن أدوات/سياقات تعبير وفعل، ويخضع سعيها باستمرار الى استراتيجيات تموقع وإعادة تموقع مستمر للوصول الى غايات مشتركة، تكون بالضرورة مختلفة عن الغايات المعلنة في نقطة البداية قبل نزولها حلبة صراع الغايات والاستراتيجيات في ساحة الفعل العقلاني.
صحيح أن ما ختم به نصر الدين مقاله (ما سماه استئناسا بالتاريخ وبالتجارب الماضية) يرشح بالكثير من دقة الملاحظة واستشراف ما يمكن أن تفتح عليه حركة الفاعلين الاجتماعيين (متحدثا عن الغنوشي) في المستقبل، ولكن المطلوب ـ بحسب رأيي ـ هو محاولة البحث عن درجة تمثيل أفكار الغنوشي لقوى إجتماعية «قادمة من تحت» (كما نظّر لها عالم الاجتماع آصف بايات) لسطح التحولات القادمة، وذلك لنتمكن من قياس مدى تأثير الرجل في الوعي الجمعي، ونعرف قيمة «فرس الرهان» الواقعي/المستقبلي الذي يعوّل عليه.