«أعداء الانقلاب» : بعضهم أعداء أنفسهم قبل معاداة الانقلاب…

7 أغسطس 2021

ليست المرّة الأولى ومن الأكيد أنها لن تكون الأخيرة، التي ينقسم فيها الشارع العربي (بنسب متفاوتة في كلّ حالة) بخصوص «سيطرة» جهة ما على الحكم «خارج المألوف» من الفعل. مثال ذلك، أنّ اللواء محمّد نجيب ومن معه من «الضباط الأحرى» انقلبوا على حكم ملك مصر فاروق، وسمّوا ذلك «ثورة»، فخرج الجزء الأكبر من الجماهير يبارك الفعل ممّا أكّد تسمية «الثورة» رغم إصرار البعض على المواصلة في اعتماد لفظ «انقلاب»، في حين أن فهارس وقاموس العلوم السياسيّة، لا يحتوي بين جنباتها على مثل هذا الشكل من «الثورات»، أو ربّما تمّت الإضافة واكتمل المعنى (ربّما)!!!

في تونس، بمجرّد أن نطق قيس الكلمة الأولى من «البيان الأوّل» يوم 25 أوت، زرع بذرة الانقسام داخل المجتمع التونسي، بين من يراه «تصحيحا للمسار» يستوجب المباركة والمساعدة والدعم، وحتّى التضحية، دون التغافل عن «الراكبين» والمنقلبين على أعقابهم، ومن كانوا إلى أيّام خلت، يعلنون أنّهم على وشك قطع أصابعهم حسرة وندما على انتخاب قيس سعيّد، وقد صاروا الآن في المراكز المتقدّمة في صفوف «المباركة». في مقابل من يرونه «انقلابًا»، سواء كان «دستوريّا» أو «عسكريّا» وقد يجعلونه «غاشمًا»، ويعلنون في إصرار لا يقبل النقاش وعزيمة لا تفلّ فيها أسلحة الدمار الشامل، أنّهم لن يتراجعوا قبل «العود إلى الشرعيّة» والتراجع إلى اللحظة التي سبقت نطق قيس سعيّد للحرف الأوّل من «البيان الأوّل»….

المفارقة أنّ هذا الطرف وذاك، يصنع لذاته قمقمًا، دون البحث أو التفكير أو التنقيب، من باب فهم ما جدّ فعلا وحقيقة، ومن باب القراءة الرصينة والعميقة، البعيدة أو المنزوعة (إجرائيا ومنهجيا، على الأقلّ) من العواطف. مع فارق أنّ «الانقلاب» صار فعل تأسيس ومراكمة، على ضوء الخطوات التي اتخذها قيس سعيّد، على مستوى التسميات خاصّة، مقابل «أعداء الانقلاب» الذي لم يغادروا بعد (على مستوى التفكير والمقاربة) منطق «السقيفة» حين نرى الجسم الأكبر (أيّ النهضة) منقسمًا (بنسب تستوجب التعريف) بين «مهاجرين» (أي المطالبين بالهجرة إلى قيادة جديدة، بديل القيادة القائمة) مقابل «الأنصار» (أيّ المنتصرين لبقاء راشد الغنّوشي)، بل نرى من هم من «أعداء الانقلاب»، من «الإسلاميين» غير المنتمين تنظيميا إلى النهضة، ومن الطيف «الديمقراطي» خارج النهضة، ينقلبون بدورهم رفضا وحتّى تنديدًا بما قيل أنّه صدر عن زعيم النهضة راشد الغنّوشي من اعتبار ما جدّ يوم 25 جويلية ليلا، «إجراءات»…

كلّ من الطرفين قويّ بذاته :

أوّلا ، الانقلاب وأنصاره : يرون في القدرة على مسك السلطة والوفاء الذي ابدته الأسلاك المسلّحة، مضاف عليه الفرحة التي بدت على «عدد من المواطنين» لا يمكن (علميا) تحديد عددهم، لكن دون القدرة على تهميشهم، إضافة إلى «التغاضي» النسبي الذي قابل به المجال الإقليمي والدولي هذا «الانقلاب»، حين عبّرت جميع الدول عن مخاوف واحترازات دون أن يطعن أحد في «شرعيّة» النظام الذي سيطر عليه قيس سعيّد، يرون في كلّ هذه النقاط، المحرّك، الذي وجب استغلاله للذهاب أبعد ما يمكن في التغيير واستبدال «قطع الغيار» داخل الدولة، بما يضمن ليس فقط سيطرة على هذه المفاصل، بل إغلاق الباب وإحكام غلقه، أمام من يفكرون مجرّد التفكير ومن يحلمون مجرّد الحلم، ليس فقط بالعود إلى «ما قبل 25»، بل تراودهم فكرة الحصول على أي نصيب من السلطة وفي أقلّه إزعاج هذه السلطة.

ثانيا، أعداء الانقلاب : هو إصرار على «التوصيف» أيّ ما جدّ انقلاب، دون الرغبة أو ربّما القدرة، وأكثر من ذلك الحاجة إلى تقديم قراءة موضوعيّة وحتّى مقاربات ذات بعد أكاديمي، تفكّك منظومة الانقلاب، سواء على مستوى الماهيّة والتكوين أو هو الفعل والأثار، لأنّهم (أعداء الانقلاب) يهزّهم رعب ليس كمثله رعب بأنّ مجرّد التفكير في اخضاع «الانقلاب» إلى أيّ فحص عقلاني وقراءة أكاديميّة، بمعنى مقاربة ما جدّ خارج منظار العاطفة/العقيدة، ليس فقط يمثل مدخلا للتشكيك في التوصيف، بل يعتبرون الفعل ذاته، قبل الحديث عن الخلاصات، تراجع أخلاقي ومن ثمّة «خيانة» تصبّ في مصلحة الانقلاب وخدمة مجانيّة للانقلابيين…

لا يعدو الأمر أن يكون صراع «شرعيات» في الظاهر، لكنّه (وهذا الأخطر) تقاسم شرعيّات، تتأكد مع مرور الزمن، في أن تقوم حواجز بين الطرفين :

أوّلا : الانقلابيون يرون في مفاسد أعدائهم قبل الانقلاب، سببا لفعلهم، وأنهم أشبه برجال المطافئ الذين لم يزد دورهم عن «إطفاء النار» وبالتالي انقاذ البلاد والعباد. دون وعي (بمعنى الإدراك الفعلي والفاعل) أنّ الجماهير التي عبّرت عن ابتهاجها بقيس سعيّد لم تخرج حبّا في شخصه، بل لفعله، ومن ثمّة تنتظر منه فعلا وتحسّنا، خاصّة على المستوى الاقتصادي معطوف على الوضع الصحّي، ومن ثمّة هم (قد) لا يدركون أن ساعة الرمل انطلقت في العدّ، أمام جماهير لا يرضيها سوى تحسّن القدرة الشرائية فعلا وحقيقة، أبعد (بكثير جدا من المليمات التي أقدمت عليه بعض الشركات)، وإلاّ هي معاودة الخروج ضدّه. كما أنّ الموقف الإقليمي والدولي، لم يكن ولن يكون «صكّا على بياض» حين لم نعتد من هذه الدول تبجيل مصلحة قيس سعيّد ونظامه على مصالحها.

ثانيا : أعداء الانقلاب، الذين يرون في مجرّد التشخيص، في بعده الأخلاقي/الإيماني «فرض كفاية» للتأكيد على الحقّ في الاستحواذ على «شرعيّة المقام» أيّ «سفينة نوح» تنجيهم من شرور «الفئة الضالة»، دون أن تراكم هذه «الفئة الناجية» أي قراءات موضوعيّة ومقاربات عقلانيّة، تكون قادرة (وهنا الأهميّة) على تكوين تيّار شعبي يؤمن فعلا بهذه «الشرعيّة» خارج الحلم بمعنى «الفانتازم» بأنّ يد ما ستمسح بشريط الزمن، لتقوم بالقطع مرّة أولى لحظات قبل نطق قيس سعيّد للحرف الأوّل من الكلمة الأولى من «البيان الأوّل» وقطع ثان راهنًا، وحذف ما بينهما ثمّ إتمام عملية اللصق، ليكون ما جدّ في «مزابل التاريخ» (على حدّ قول قيس سعيّد)، ليكون الأمر أو هو مجرّد تدوينة يكتبها أحدهم، على صفحته على الفايسبوك، عن كابوس (والعياذ بالله) بأنّ «الاخشيدي» انقلب على «الشرعيّة» لنسمع قهقهة طويلة عريضة لا تنتهي…

نحن أمام «ناموسين» كلّ منهما ينفي الأخر، بل يطالب بالمطلق، كلّ يمثّل خطرا على ذاته قبل الخطر على خصمه، ودليل ذلك أن من طعن بورقيبة وتخلّص منه كان بن علي، ومن طعن بن علي وتخلّص منه كان الغنّوشي (محمّد)، مع التأكيد أنّ «ناموس» أعداء الانقلاب أشدّ عداوة على ذواتهم من أيّ «ظلم» من قبل «الانقلابين» حين بدأوا (كما في مصر) يغرقون في «أدبيات النحيب الدائم»، في تأكيد على أنّ قيس سعيّد سيطر على «السلطة» في بعدها المادي، في عجز (حسب رأيهم) عن افتكاك والاستحواذ «الشرعيّة الأخلاقيّة» (التي هم مؤتمنون عليها)، ممّا يعفيهم، على اعتبارهم أصحاب السقاية والوفادة، من فوائد القراءات العقلانية والمقاربات الرصينة، كأنّهم (أو هم فعلا) ينتظرون أن تنزل الملائكة تحارب بدلا عنهم، لتقضي على «الأشرار» وتسلّمهم «الحكم» في طبق من ذهب الجنّة…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي