أمريكا: عجزت عن «صناعة التاريخ» فراحت «تداوي ذاتها»…

14 نوفمبر 2016

الخلاصة (الأهمّ) التي جاءت بها الانتخابات الأمريكيّة التي فاز بها دولاند ترامب ، تكمن في صرخة «العمق الأمريكي» (الانتخابي)، بل تشديده من باب الإصرار، على أنّ «صورة القوّة» التي اكتسبتها بلادهم منذ الحرب العالميّة الثانية، صارت أو هي انقلبت «عديمة النفع»، حين صارت نسبة الفقراء والمهمشين في تزايد، وصارت «الطبقة الوسطى» (عماد المجتمع) إلى تضاؤل خطير، ممّا دفع هذا «العمق» إلى طرح سؤالين منطقيين بل في الحاح عاجل وأكيد:

أوّلا: ما فائدة أن تكون «البلاد غنيّة»، بل الأغنى في العالم، وفي تفوّق (كمّي) على الجميع، ونسبة الفقر في تزايد وعدد المهمّشين في ارتفاع؟؟؟

ثانيا: ما فائدة هذه «القوّة» العسكريّة الضخمة، الضاربة في المحيطات والقارات، والمصاريف التي تتبعها، وما تؤسّس له من صراعات مع بقيّة الأقطاب، في غياب مردود مباشر وأكيد، لهذه القوّة على (هذا) العمق الشعبي؟؟؟

أسئلة يطرحها عمق أمريكي، لم ترق له «العولمة» في بعدها الاقتصادي ولم تعجبه «الامبرياليّة» في شكلها العسكري، علمًا (وهنا الأهميّة) أنّ الخلاف حول «توزيع الثروة» والاختلاف بخصوص «فوائد الامبرياليّة»، لم يكن وليس ويستحيل، أنّ يتّخذ طابعًا «أخلاقيّا» (ضمن المعنى الطوباوي)، بل فقط «نفعيا» (ضمن المعنى المباشر واللصيق للكلمة)…

 

من ثمّة جاء دولاند ترامب، «اصلاحيّا» (ضمن المعنى الوظيفي) يبحث عن «تعديل البوصلة» (الاقتصاديّة) و(إعادة) «تصويب الخيار العسكري» نحو نفعيّة مباشرة، ممّا يعني (وهنا الأهميّة والخطورة) نقد «أساليب الحكم التقليديّة»، التي سيتمّ نقضها (جزئيّا أو كليّا)، سواء على مستوى الفكر والتنظير أو الممارسة والتعاطي أو حتّى قراءة النتائج وتقييم المشهد. وجب التذكير أو التأكيد أنّ ترامب (أو الفكر الذي ينهل منه) لا يطعن في «نمط العيش الأمريكي»، أيّ «المشروع الأمريكي» (في أبعاده المؤسّسة وشكله الأشمل)، بل فقط يريد (والكلام له) «محاربة الانحرافات» وكذلك «تصويب الاعوجاج»…

 

الأرقام الاقتصاديّة ومجمل الاحصائيات القائمة في الولايات المتّحدة، تؤكد على أمرين خطيرين:

أوّلا: تراجع الاقتصاد الأمريكي، سواء على مستوى الكمّ أو النسبة قياسًا مع الاقتصاديات الأخرى في العالم

ثانيا: ارتفاع نسبة قطاع الخدمات وكذلك المضاربة الماليّة، مقابل تراجع كبير ومقلق للقطاع الصناعي، مع تراجع نسبي للقطاع الفلاحي، رغم أهميته على المستوى الكمّي.

رهان المشروع الذي جاء بهذا الرئيس «الثائر» على الطبقة السياسيّة التقليديّة، يكمن من ثمّة في أمرين أكيدين:

أوّلا: إدارة العجلة الصناعيّة من جديد، وما يتطلبّ الأمر من اجراءات حماية أكيدة، تجاه منتجات الدولة المنافسة، الصين أساسًا…

ثانيا: تطويع المنظومة العسكريّة لتكون أكثر مردوديّة (أيّ أكثر نفعًا للاقتصاد الداخلي)…

هذا الطرح، سواء على مستوى التشخيص والقراءة أو تقديم الحلّ والبحث عن مخرج، يمثل زلزالا بل «كفرًا» بما أسّست له «منظومة الحكم» منذ الحرب العالميّة الثانية، وأساسًا منذ حرب الولايات المتحدة على العراق وأيضًا سقوط حائط برلين.

 

لا تعني المسألة تبديل «رؤية» بأخرى أو إعادة عقارب الساعة، بل هي «فلسفة» حكم جديدة، تهدف في «الحدّ الأدنى» (وليس الأقصى والمثالي) تقديم «ترضية» إلى هذا «العمق الأمريكي» (أيّ دافع الضرائب الذي يمارس الاقتراع)، بأنّ يكون «شريكًا» في «المنافع الاقتصاديّة» وكذلك «صاحب حقّ» في ما هو مفترض من خيرات «الامبرياليّة الأمريكيّة»…

 

من ثمّة يمكن الجزم أنّ نتائج هذه الانتخابات (الرئاسيّة الأمريكيّة) تمثلّ (بمفهوم مراكز الأبحاث والاستشراف السياسي) «وقفة تأمّل» تجاه «العولمة»، والأخطر وما يصدم حقّا، يكمن في أنّ هذا «الكفر» بهذه العولمة، جاء ممّن جعلوا أنفسهم منذ الحرب العالميّة الثانية وفي نفس جديد منذ ولاية الرئيس رونالد ريغين، ليس «أنبياء العولمة» (فقط)، بل (وهنا الخطورة والسؤال) «المؤتمنين على اكمالها» سواء عن طريق «التبشير» الاقتصادي (الجزرة) أو «التلويح» العسكري (العصا)…

كاتب «نهاية التاريخ» عليه ليس فقط إعادة قراءة المؤلّف، بل ربّما تمزيقه أو حرقه، حين جاء نجاح ترامب ليثبت بالدليل المادي الملموس، أنّ «نهاية التاريخ» في المعنى الذي جاء في الكتاب، أيّ وصول العالم الغربي إلى الشكل الحضاري (ومن ثمّة النمط السياسي) الأرقى، لا يمثل سوى «كذبة»، لم يأت الطعن فيها أو الرفض من «المنافسين» (المحتملين)، بل «أهل البيت» أنفسهم، إن نقل «النخبة المعصومة» عن الخطأ (وفق منظور العولمة السائد حاليا)…

 

لم يذهب دولاند ترامب، أو الجماهير الغاضبة أو هي الحانقة التي صوّتت له، حدّ كسر «الوعاء» الامبريالي، بل هي (تشبيهًا) أعلنت وصرخت في عنف شديد أنّها عافت «المحتوى» الذي ليس فقط تخمّر وأصبح غير قابل للاستهلاك الشعبي، بل (وهنا الخطورة) صار خطرًا على «الصحّة العامّة» سواء على الاقتصادي الأمريكي، أو الاستقرار الاجتماعي في البلاد…

 

من الصعب جدّا، بل من شبه المستحيل، أن يستطيع دولاند ترامب تعديل الموجة (الاقتصاديّة) أو إعادة تصويب البوصلة (العسكريّة/الامبرياليّة) خلال ولاية واحدة، لكن (وهذا الأهمّ)، يكمن في هذا «العمق الغاضب» الرافض أو هو العاجز عن تقديم أو قبول «قراءات عقلانيّة»، ممّا يعني أنّ ولاية انتخابيّة واحدة (على الأقصى) ستكون كافية، لتعديل الاقتصاد وتصويب الامبرياليّة، وإلاّ سيكون «ترامب» جديد أشدّ عنفًا في طلب (هذه) «الحقوق»…

تأثيرات هذا الانكفاء الأمريكي خطيرة جدّا، بل يمكن الجزم أنّها «النكوص» الأخطر في تاريخ الرأسماليّة ذاتها أو الدولة الراعية (رسميا) لهذه «الرأسماليّة»، التي من الأكيد أنّها سترفع جدران اقتصادها أمام السلع الواردة من العالم أجمع، الصين أساسًا، وكذلك، ستحاول الدفع بالحركة الصناعيّة لتنطلق وتبتلع هذه الجحافل من العاطلين عن العمل…

 

بلغة طبيّة يمكن الجزم أنّ الولايات المتحدة ستقدم على تناول دواء أمرّ من العلقم ذاته، لكن الأخطر يكمن في «الأعراض الجانبيّة» الخطيرة جدّا، بل غير المعلومة، سواء على مستوى ردّة فعل «الأمم الشريكة» في الاقتصاد العالمي، التي ستتضرّر شديد الضرر من «الحماية» الأمريكيّة، أو كذلك المناخ العالمي الجديد، الذي سيشهد «اضطرابات» أكيدة، سواء على مستوى انتقال الأموال (المضاربة المصرفيّة) أو حتّى انتقال السلع، ممّا يعني (بكلّ بساطة) أن الولايات المتحدة ذاتها أمام «المجهول» حين بدأت رياح الانفصال تهبّ على كاليفورنيا، أو ردود الفعل الشعبيّة الرافضة لهذا «الانتصار التاريخي»، دون أن ننسى  ردود فعل «غير المحسوبة» هنا وهناك، حين لم يحسب أحد أن تنقلب «قلعة العولمة» إلى «قمقم» مغلق…


347 تعليقات

  1. عبدالرزاق الجملي

    ملاحظة صغيرة : فرانسيس فوكوياما مؤلف كتاب نهاية التاريخ اعلن منذ سنوات عن تراجعه عن نظريته وعدم صحتها

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي