إلى أبي يعرب المرزوقي : عُدْ إلى مَنْبَعِكَ الصافي…

10 فبراير 2020

أوّل ما عرفت، بل قل اكتشفت أبا يعرب المرزوقي، كان في مقرّ «منتدى الجاحظ» الكائن في نواحي ضاحية باردو، في زمن سبق بسنوات تاريخ 17 ديسمبر من السنة إيّاها، عندما كان مجرّد الدوران في نواحي هذا الموقع، تُهمة تُسجّلها العيون في صحيفة الجاني.

شدّني إلى الرجل أو هو أبهرني أبعد ما يكون، قدرته على تكثيف اللغة والذهاب بها عصرًا حدّ جعلها رحيقًا فلسفيّا صرفًا. أزعم يقينًا أنّ لا أحد من نظرائه في الفضاء العربي، أقدر منه أو يساويه في هذه القدرة، لمّا يقول في كلمات معدودات، ما يستوجب من غيره ثرثرة مملّة.

كذلك شدّني إلى الرجل، ما شدّني إلى الموسوعة الإيطالي الراحل أمبرتو أكّو، من قدرة على رؤية ما لا نرى في هذا الواقع الماثل أمامنا، حين استطاع أبو يعرب المرزوقي في مجال الفلسفة وأمبرتو أكّو في مجال الفكر عامّة، الغوص في حياة نعيشها، دون أن نتفطّن إلى وجود طبقات أخرى أسفل الغشاء البادي أمام أعيننا.

سنوات مرّت ودارت أيّام، ورحل أمبرتو أكّو عن الدنيا، ودخل أبو يعرب مجال السياسة، فكان أن استعاض عن لغة الفلسفة المكثّفة الراقية بحديث أقرب منه إلى السعي إلى إقناع الرعاع والعوام، وحصْد الإعجاب وجمع ما هو باطن في قرار السياسيين من حبّ الظهور وغرور الأضواء الكاشفة.

téléchargement (3)ما كتبه أبو يعرب عن الرئيس قيس سعيّد، لا يهمّ كاتب هذه الأسطر في محتواه، لأنّ قيس سعيّد إلى ساعة تحرير هذا النصّ، لم يأت الفعل اليقين، الذي لا يحتاج إلى بينة أو يسنده برهان، بخصوص ما جاءت ضدّه من اتهامات. مقابل ذلك لم يأت أبو يعرب بالبيّنة الشافية الوافية عمّا يدّعي. فقط، طلب منّا أنّ نصدّق اشتقاق ما يرى دون ما نرى وأن نؤمن بما هو يقين في فؤاده، دون قدرته على الاثبات، على الأقلّ وفق المنهج التفكيكي/التركيبي الذي كان يعتمده أثناء المحاضرات التي كان قدّمها في رحاب «مؤسّسة الجاحظ».

كاتب هذا الأسطر، يعتبر أنّ أبا يعرب حرّ كامل الحريّة في اعتبار قيس سعيّد (الرجل والرئيس ورجل السياسي) شيعي وصفوي وغير ذلك من التوصيفات، لكن فقط مُطالب بحكم نصوصه التي أسّست عليّ مقامه الفلسفي، أن يعود إلى أسلوبه المؤسِّس لصورة رجل الفلسفة القادر على تكثيف النصّ حدّ «إعجاز» غالبيّة معاصريه،ـ لأنّ من في مقام أبي يعرب، هو في مقام جرير والأخطل والفرزدق، عندما يُخاصم، يكون خصامه دررًا يحفظها التاريخ، وقد حفظ لنا التاريخ درر المعارك الكلاميّة التي تخاصم من خلالها ثلاثي العصر الأموي، ولم يحفظ أو هو لم يصلنا ما قد يكون نطق به أحدهم من كلام غير درر الشعر الخالدة.

رجاء أن يعود أبو يعرب ويعاود ركوب جواد الفلسفة، لأنّه يرتكب خطأ فادحًا ومدمّرا في حقّ ذاته (الشخص) ومقامه (الدكتور) وفكره (الفيلسوف)، حين يطلب من قارئ نصوص «الهجاء السياسي» أن يثق في «براعة تحليله الفلسفي»، ويطلب من الجميع، أو بالأحرى هو يضع كلّ مطالع للنصّ، (عنوة) أمام «خلاصات» على قدر كبير من الخطورة، حين جاءت الاتهامات «غير هيّنة»، دون أن يمارس أمام أعيننا ذلك «التفكيك/التركيب» الذي كثيرًا ما مارسه، بل كان سلاحه السحري والساحر، الذي أشبه بعصا موسى (عليه السلام) ابتلع عصيّ الأخرين، بما في ذلك جهابذة الفلسفة في الغرب.

يستبطن أبو يعرب المرزوقي (كاتب النصّ السياسي) أنّ يعامله جمهور القراء، بناء على الرصيد الهائل الذي اكتنزه أبو يعرب المرزوقي (كاتب النصّ الفلسفي) ومن ثمّة يستلف «السياسي» داخله من «الفيلسوف» قدرة «التفكيك/التركيب»، مع فارق إخفاء العمليّة، معتقدًا أنّ رصيد الفيلسوف يشفع أمام القراء لما وضع السياسي بينه وبين الناس من «تقيّة»، حين يرفض الجهر أمام الجميع بمرتكزات المنطق المعتمد عند تحبير النصّ السياسي.

من منظور أخلاقي وعلمي، وفي علاقة بواجب مراكمة مدوّنة نقديّة بالمفهوم السياسي، مطلوب من أبي يعرب أن يخطّ نصوصه السياسيّة بشفافيّة أو صفاء كتاباته الفلسفيّة، ليترك في رصيد أجيال القرون القادمة ما ترك الأوّلون لأجيالنا من معلّقات، لأنّ التاريخ لن يحفظ مثل هذه النصوص التي كتبها عن قيس سعيّد…

من الأفضل ألاّ يحفظها….


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي