الارهاب في فرنسا والوجع في العالم… مأساة ذاكرة (فرنسيّة) مخرومة

19 نوفمبر 2015

ليس من نقاش أو حديث أو شكّ، أنّ فرنسا (البلد والنظام والشعب) قد تلقت ضربة قاسية، ودفعت من دماء مواطنيها والمقيمين على أرضها ضريبة مؤلمة. الصدمة شديد أو هو الهول (ضمن المعنى المباشر للكلمة) أشدّ، حين فقدت فرنسا (النظام والقيادة) قدرة الفهم للحظات أو دقائق، قبل أن نستردّ مداركها وتأخذ المبادرة، للقضاء على الارهابيين وانقاذ (ما أمكن من) الرهائن أو المحتجزين.

أحسّ الفرنسيون كما لم يحسّوا من قبل بهول «ارهابٍ» يسمعون عنه، أو يشاهدونه على شاشاتهم، أو هو (فقط) من فعل «غيرهم» في «غيرهم»، حين صنعت «الذات الفرنسيّة» (الصافية والنقيّة) Français de souche على قول الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند «أسطورة» التفوّق الحضاري واستحالة السقوط (أو العود) إلى مستنقع «الحضيض» (القروسطي)، حين أباد الكاثوليك من البروتستانت عشرات الآلاف أو أكثر بكثير، وعلى أيّام وأسابيع، بدءا من تاريخ 24 أوت 1572، في واقعة «سان بارتلمي» Saint-Barthélemy التي لا يزال العقل الغربي (الأكاديمي على الأقلّ) يذكرها جيّدا، بل يعتبرها «مرجعًا» في «الإرهاب المنظّم»…

أرجعت مجزرة باريس الارهابيّة العقل الفرنسي (الرسمي والشعبي) إلى غياهب تاريخ، حسب الفرنجة أنّهم غادروه دون رجعة…

من المفهوم والمعقول أنّ يحسّ الفرنجة (إثر هذا العمل الإرهابي) أنّهم «قلب العالم» وأنّ على البشريّة جمعاء أن «تحسم أمرها» إمّا تعاطفًا مع فرنسا والفرنسيين ومن ثمّة التنديد بالإرهاب والارهابيين، أو أن يكون من رفض (هذا الموقف) «شريكًا» أو «طرفًا» في الارهاب.

مصيبة الإرهاب، أنّ آلمه يختصر التاريخ ويقتطع الزمن، تصير فرنسا (الأرض والوطن والدولة) هي التاريخ كلّه في الجغرافيا القائمة، لذلك يأتي شعار «أنا شارلي» (في السابق)، أو «أنا فرنسا» أو «أنا فرنسي»، اختصارًا للعالم وتضييقًا للجغرافيا، واستدراجًا للتاريخ.

ليس في الإرهاب شماتة أو تشفّ أو حتّى «مقايضة» هذه بتلك، حين يبقى الإرهاب إرهاب مهما كانت الفاعل ومهما كانت هويّة الضحيّة، لكنّها فرصة لأوروبا عامّة وللفرنسيين على وجه الخصوص، لفهم أنّ اللعب بالنار ينتهي إلى الاحتراق بها أوّلا، حين موّلت فرنسا (الدولة والنظام وجزء من الإعلام) الجماعات الإرهابيّة بسورية ومدّتها بالسلاح، وفاخرت بذلك، ولا تزال تمارس دورًا «قذرًا» فعلا على مدى العالم، تأجيجا لبؤر التوتّر، سواء في سورية أو مالي أو جنوب ليبيا أو افريقيا الوسطى أو العراق، أو غيرها من أماكن العالم.

بعيدًا أو هي القطيعة المعرفيّة مع «نظريّة المؤامرة»، يمكن الجزم أنّ الشعب الفرنسي بصدد دفع فاتورة تلاعب قيادته بمنظومة الإرهاب، حين ثبت بالدلائل الماديّة القاطعة أنّ المخابرات الفرنسيّة ضالعة في تسفير الشباب الفرنسي (من أصول اسلاميّة) أو الذي أسلموا، إلى سورية والعراق، تأجيجًا للوضع في البلدين، ومن باب «تنظيف البلاد» من هذه «القنابل الموقوتة»….

الفضاء الغربي (عامّة) وفرنسا (خاصّة) تحمل ملفّا ثقيلا، يقطر دمًا ودموعًا وآلامًا على مدى الماضي الاستعماري الذي يفتخر به، بل يفاخر الرئيس السابق فرانسوا ساركوزي…

العنصرية

العنصرية

لا مجال للخلط أو اللبس أو الشبهة، ما جدّ في باريس جرائم ارهابية لا ليس فيها، لكن فرنسا ارتكبت على مدى تاريخها الاستعماري جرائم لا تقلّ دمويّة، بل كانت جرائم دولة بأمر من القيادات السياسيّة (حينها) وجزء مؤسّس وكذلك «أصيل» من هذه السياسة الاستعماريّة.

الأزمة أخلاقيّة قبل كلّ شيء، لا يمكن للفرنسيين أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها، من أجل جريمة أصابتهم فعلا، لا يمكن نكرانها، وهم (النظام والدولة خاصّة) شهود زور أمام ما يجري في غزّة وفي فلسطين عامّة… كيف لهم أن يطالبوا العالم بالتنديد بهذه الجريمة والمنظومة الحاكمة (في فرنسا) ترفض الاعتراف بجرائم التاريخ في الجزائر وغيرها من المستعمرات، بل هناك من يجد للاستعمار فوائد، ربّما تستوجب على من استعمرتهم فرنسا، أن يرفعوا إلى عليّ مقامها أسمى عبارات الشكر!!!!

القيم الأخلاقيّة، تفقد قيمتها، بل تنقلب إلى نقيضها، حين نأخذ نصفها ونترك النصف الأخر.

مهما أعلن الخطاب الفرنسي (الرسمي) من عدم ربط بين الإرهاب (الجريمة) والإسلام (الدين)، إلاّ أنّ الخطر يكمن في انتكاسة الوعي الغربي عمومًا والفرنسي خاصّة، وسقوطه في حضيض «التبسيط» الذي ينادي به طيف من «اليمين المتطرّف» وكذلك طيف غير هيّن ممّا يسمّى «وسط اليمين»، من ربط مباشر وصريح، بين الارهاب والمسلمين المقيمين في الغرب، وثانيا (وهذا لا يقلّ خطورة) اعتبار الهجرة (في ذاتها) سببًا، أو أرضيّة للإرهاب، وكذلك «السبب المباشر» في الأزمة الاقتصاديّة القائمة في فرنسا (مثلا) تحت مقولة أنّ «المهاجر جاء ليفتكّ خبز الفرنسيين».

أخطر من الارهاب فعلا على فرنسا (وعلى العرب والمسلمين هناك) أن تسقط المنظومة كلّها فيما يمكن أن نسميه «الهويّات القاتلة»، أي تأسيس «الذات» وبناء «الأخر» على أساس النفي والقطيعة، ومن ثمة يكون البحث والسعي والهوس بنظريّة «النقاء»، لتعود ليلة 24 أوت 1572 في نسخة جديدة ومنقحة، ونبحث بذلك عن قدّيس أخر، نسمّى باسمه المجازر الجديدة…

البعض (من مثقفي فرنسا) سقطوا (منذ سنوات) في «أيدولوجيّة التحقير»، وجعلوا منها «تجارة رابحة» تتكالب عليها وسائل الاعلام والمنابر التلفزيونيّة، ممّا يعني أنّ هناك من يريد التأسيس لشكل من «العنصريّة المحترمة» القائمة على تشخيص يراه أصحابه «مجرّد توصيف» (للواقع لا غير).

المناداة بطرد المسلمين أسوة بما فعل المسيحيون في اسبانيا أثناء «حرب الاسترداد» بدأ يشقّ طريقه في بطء، لكن وجب الاعتراف أنّ الأغلبيّة (الصامتة) في أوروبا لا تزال تحتفظ بعقل رصين وقرار هادئ، بل ترى في المسلمين والعرب، مواطنين أسوة بهم، ممّا يعني أنّ المعركة ستكون طويلة وقد بدأت فعلاً.

 

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي