الاسلاميون : من «جهاد العقيدة» الى «الدفاع عن مربعات النفوذ»….

22 يناير 2023

رغم ما أعلنته ولا تزال عديد التنظيمات الاسلامية عبر الفضاء العربي من تحوّلها الى مجرد أحزاب سياسية أسوة بمجمل الطيف الايديولوجي، الناشط ضمن هذا الفضاء، ورغم الجهد الدؤوب والمضني الذي تبذله ولا تزال لإقناع الجميع (خاصة ضمن الفضاء الغربي) أنّها لا تحتكر أو بالأحرى لم تعد تدعي احتكار الإسلام ضمن منطق «الولاء والبراء»، ومن ثمة قدرتها ليس فقط على مزج الإسلام (الذي تحوّل لديها من مصدر للشريعة وأساس العقيدة، الى جامع حضاري يخصّ الجميع) مع الديمقراطية، رغم كل هذا الجهد الذي انطلق محتشما بمجرد اعدام السيد قطب ليتسارع بعد ذاك، لا العقل الجمعي والباطن لهذه التنظيمات قادر على التخلي عن اليقين بأنهم «الفئة الناجية»، وما يتبع ويلزم من اعتبار بقية الطيف الاسلامي «درجة ثانية» في أحسن الأحوال إن لم نقل «كفرة» أو «مرتدين»، ولا العقل الغربي قادر أو بالأحرى مستعد لتصديق هذا الادعاء، لأنّ تمثلات الغالبة في الغرب عن الإسلام وخصوصًا الماسكة للقرار السياسي، لم تغادر ولن تغادر المربّع الذي رسمه إسكندر المقدوني عن «الأخر» معطوفًا على موروث الحروب الصليبية، ومكللا بالإرث الدموي الذي خلّفه الاستعمار.

حين نختصر المسافة الزمنية بين نهاية سبعينات القرن الماضي أين ظهرت «الجماعة الإسلامية» من أجل العود بالمجتمع حينها الى أصوله الاسلامية، من جهة، وما تعيشه حركة النهضة حاليا من هموم السياسة حين لم يعد لها من مطلب سوى استرداد «مربع الشرعية» ظاهرًا وتحويله إلى «حائط مبكى» يختصر أو هو يلغي سائر شؤون الدنيا الأخرى، سنوات ضوئيّة…

جاء الامر بناء على قناعات قامت على قراءات بالقدرة على ولوج عالم السياسية وفي الآن ذاته (والأمر على درجة كبيرة من الخطورة) قدرة المحافظة على «العروة الوثقى» مع مرتكزات الشريعة في بعديها الذاتي كما الجماعي، وكذلك على مستوى ممارسة السياسية في شكلها القائم بحسب الزمن والمكان

انطلق الفكر الذي قامت عليه هذه الفلسفة من أنّ «الإسلام (الدين) صالح لكل زمان ومكان»، وبالتالي هم أصحاب قدرة على اللعب في المباريات السياسية الكبرى على المستوى الدولي، ليس من منطلق تحصيل بعض المكاسب، بل تحقيق الغلبة وبلوع التمكين في الارض، الذي يمثل او بالأحرى كان يمثل الغاية الأنبل والاقدس لتنظيم «الاخوان المسلمين» عند انطلاقته

Belzسريعا ما اكتشفت قيادات الجيل الذي امسك بناصية القرار بُعَيْدَ اعدام السيد قطب أنّ ما يحملون من تصّور عن الدين الاسلامي عاجز او غير كاف، سواء لإقناع الطرف الغربي أوّ حتى حكام الدول التي ينتمون اليها أنّهم أصحاب حقّ، في الوجود الآمن أوّلا، وفي ممارسة السياسية دون تضييق ثانيا، وفي الوصول الى السلطة ثالثا، أو على الاقل المشاركة فيها، أو أقل من ذلك المشاركة في رسم خطوطها العريضة، أو أقلّ من كل ذلك، مقايضة البقاء على قيد الوجود مقابل التسليم الضمني للحكام بأحقية الحكم، وإن كان «بما لا يرضي الله»، أي «على خلاف الشريعة الإسلامية» التي قام التنظيم في مصر بغاية احلالها

وجب الاقرار أنّ الواقع السياسي المصري مثّل ولا يزال «المختبر» الأهمّ للاشتغال على نقل الفكر الاخواني وكذلك الممارسة من نقاوة المشروع الى مستنقع الممارسة، مع وجوب الاشارة الى أنّ الإخوان في بلاد النيل، استطاعوا تحقيق نجاحات لا يُمكن انكارها، خاصة على المستوى الاجتماعي والصحي خصوصا، مرده تخلي الدولة هناك منذ صعود محمد انوار السادات الى الحكم دورها الاجتماعي، ممّا مكّن الاخوان من احتلال فضاء لا يمكن لاي تنظيم آخر لا ملؤه ولا حتى المنافسة فيه. دليل ذلك أنّ تردي الوضع الصحي في مصر راهنا مردّه الفراغ الرهيب الذي كانت المنظومة الصحية للإخوان تملؤه، وتلعب دور الرديف للدولة ومن ثمة الضامن (في نسبة غير هينة) لاستقرار النظام السياسي الذي سبق سقوط مبارك

في تونس، منذ القبول بتغيير التسمية من «الاتجاه الإسلامي» إلى «حركة النهضة»، بدأ يتبلور تيار يرى في «الواقعية السياسية» خير أسلوب لضمان البقاء حين غاب التفكير أو كاد، في مسائل قامت من أجلها «الجماعة الإسلامية».

ذهبت الحركة قبل 14جانفي وخاصة بعد هذا التاريخ بعيدا وقطعت أشواطا أو هي سنوات ضوئية في هذه «الواقعية» التي لا يمكن أن ترى النور دون مضاعفات مسّت في أكثر من مرة القواعد المؤسسة لهذا المشروع الاسلامي عند انطلاقها.

بدأت النهضة تستعيض حينها تدريجيا بالعصبية (في مفهومها القبلي المباشر) عن وحدة العقيدة وقداسة المشروع، بمعنى ان الدفاع عن «الوعاء» (الكيان المسمى النهضة) واجب بل هو فرض عين، مهما كان «المحتوى» الايديولوجي الذي تنتجه القيادة…

على المستوى السيكولوجي البحت، وفي تجاوز للبعد الإسلامي لإن الأمر يخصّ العقل العربي بمجمله، يستحيل على أي تنظيم عَقَدي، نشْر غسيله على السطوح ومحاسبة القيادات، دون الخوف او الرهب من التخوين أو حتى التكفير أحيانا، لأن طعن الزعيم يعني (وفق هذه القناعة) إطلاق رصاصة الرحمة على المشروع برمّته.

انزلقت الأحزاب «الإسلاميّة» من مربّع «قدسيّة الدين» إلى مستنقع السياسة الآسن، ليستحيل الجمع بين الأصول المؤسّسة ومجالات الممارسة، حين لم يعد أحد من قيادات النهضة قادر على لعب دور «الثائر» من أجل الحقوق الاقتصاديّة أساسًا، بمعنى تبنّي المطالب اليوميّة، خارج مربّعات المزايدة الكلاميّة والفوضى الإعلاميّة.

على المستوى السياسي البحت، ووفقا لجدليّة الصراع القائم في البلاد، يحقّ للنهضة «تثمين» شعارات معارِضة لما تراه «انقلابًا»، حين لا يمكن لأيّ كان أن يطلب منها أداء دورًا «الملاك السياسي» في بلد «الشياطين» أو هم الأبالسة ذاتهم، لكن واجب كيان سياسي بمثل هذا الحجم (على الأقلّ قياسًا بباقي التنظيمات السياسيّة) وهذا الإرث التاريخي الممتد على أربعين سنة أو يزيد، وأساسًا قياسا بالدور الذي لعبته طوال عشريّة (مهما كان لونها)، أن تؤمّن وقفة تأمّل ليس فقط للأداء السياسي في بعده المباشر، بل أساسًا الفكر السياسي الذي استندت إليه القيادات، وأكثر من ذلك أسباب «المكابرة بالإثم» أيّ الاستمرار في نهج تأكّد خطره منذ أمد طويلا جدّا.

تمرين لمحترفي التلوّن :

حلّل وناقش مستدلا بأمثلة من الواقع :

عدد غير هيّن من العمق الشعبي لجميع الأحزاب العقديّة، يدافع عن الفكرة في بعدها الأصلي وليس عن «الزعيم» أو ما صارت إليه راهنًا هذه الفكرة، ليكون الجزم أنّ القيادة والقاعدة، يدافعان عن نفس الدال وليس عن المدلول ذاته، من باب الكبرياء والخوف من شماتة المناوئين.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي