الحرب مع الصهاينة : بالضربة القاضية والقاتلة، فقط لا غير…

16 مايو 2021

حين نستعير من العلوم الكيميائيّة مفرداتها، يمكن الجزم أنّنا، أمام ما يجري على أرض غزّة وفي الضفّة والقدس والداخل الفلسطيني أشبه بتفاعل «غروانيّ»، بالإنجليزية Colloidal، وبالفرنسيّة colloïdal، وهي علميا تفاعلات في اتجاه واحد، يستحيل على العلم الذهاب بها في الاتجاه المعاكس، أو على الأقل أيقاف التفاعل، مثل تسليط الحرارة على أبيض البيض، حين يتحوّل من سائل شفاف لزج إلى مادّة بيضاء اللون.

كما في الكمياء نجد في العلاقات السياسيّة «تفاعلات غروانيّة»، أيّ أنّها في اتجاه واحد، مهما كان التدخّل. هذا التدخّل أو ما يسمّى «عامل تحفيز» أو بالإنجليزيّة catalyst وبالفرنسيّة catalyseur، يستطيع فقط الإبطاء من سرعة التفاعل إلى أقصى درجة، لكن يستحيل عليه إيقاف التفاعل أو من هو سابع المستحيلات قلبه في الاتجاه المعاكس.

الحرب على فلسطين بمختلف ميادينها، هي من هذا الصنف، تسير في اتجاه واحد، حين اعترفت العقول المفكّرة ضمن الكيان الصهيوني بأنّ «اللعبة انتهت»، وبالتالي ما يتلو على مستوى الزمن، مهما كان، يبقى «تفاصيل» من الأكيد أن معظمها على قدر كبير من الأهميّة، لكن عاجزة (أيّ التفاصيل) عن إيقاف «المعادلة» أو الرجوع بها إلى ما قبل اقتحام المسجد الأقصى والسعي الصهيوني للاستيلاء على حيّ الشيخ جرّاح.

حين نختصر المعادلة ونذهب في تعريف «إكراهات» كلّ طرف (بالمفهوم المادّي الظاهر وليس القناعات ومدى التبنّي والانتماء)، نجد :

أوّلا : المقاومة الفلسطينيّة، حين أعلنت من تلقاء ذاتها الانطلاق في إطلاق الصواريخ على الكيان الصهيوني نُصرة للمرابطين في المسجد الأقصى ومساندة لسكّان حيّ الشيخ جرّاح، وضعت ذاتها ضمن معادلة جديدة، لم تكن قائمة، حيث عليها أن تفي بوعدها، أيّ عدم القبول بأيّ «وقف لإطلاق النار» أو أيّ «هدنة» وفق القواعد التي ميّزت الاعتداءات الصهيونيّة السابقة، بمعنى إيقاف الرشق بالصواريخ مقابل القصف بالطائرات، مع وعود فضفاضة (أغلبها كاذب) بإعادة الاعمار أو فكّ الحصار أو في الأدنى التخفيف منه.

دخول «القدس» ومن بعدها «فلسطينيي الداخل» ومن بعدهما «الضفّة» دائرة الصراع، يلزم قيادة المقاومة في غزّة على الذهاب جبرًا ولزامًا ودون أدنى حقّ في الفصل بين الملفّات، إلى «معالجة شاملة» بمعنى أنّ الرشق بالصواريخ لن يتوقّف قبل أن تنال المقاومة في غزّة ما يكفي من الدلائل على عدم تعرّض الصهاينة للقدس ولفلسطيني الداخل والضفّة.

تعلم المقاومة في غزّة علم اليقن أنّ أيّ «اتفاق ثنائي» سواء هو «وقف لإطلاق النار» أو «هدنة» في تناس أو تجاوز، تحت أيّ تعلّة كانت، للملفّات الفلسطينيّة الأخرى، سيجعل «الوحدة الفلسطينيّة» ليس فقط تتشظى بل هو انفجار قاتل ومميت.

ثانيا : يعلم العقل الجمعي الحاكم في الكيان الصهيوني، أنّ المقاومة في غزّة التي دفعت مئات الشهداء من صفوفها ومثلهم من عمقها الشعبي، أسهل عليها أن تتحمّل قصف الطائرات ومزيدا من الشهداء في صفوفها أو من شعبها، دون أن تنبس بربع حرف، يُفهم منه وإن كان تلميحا أنّها ربّما تكون على استعداد للتفكير في أيّ «اتفاق ثانوي».

Gaza4في المقابل يعلم هذا العقل الماسك للقرار في الكيان الصهيوني أنّ لا حلّ للحرب الدائرة دون (أقلّها) التزام علني وصريح، دون أدنى مواربة من قبلها، بعدم المساس بالوضع القائم في القدس، أو في داخل فلسطين أو في الضفّة، أي بالملخص عدم اتخاذ أيّ قرار والإقدام على أيّ خطوة لا ترضى بها المقاومة في غزّة ومجمل حلفائها ضمن الطيف الفلسطيني، ومن وراء جميعهم حلف المقاومة بدرجاته.

 

كذلك يعلم هذا العقل أنّ مجرّد نطق الحرف الأوّل من الكلمة الأولى من الجملة الأولى، التي يعلن فيها بأيّ شكل كان، وبأيّ تعبير كان، أن الكيان الصهيوني يقبل مجرّد فكرة مقايضة سلطته على «عاصمته الأبديّة» أو نفوذ «الدولة» على عمقها الاستراتيجي (الداخل الفلسطيني) وعدم التعرّض سواء للوضع القائم في القدس أو في الضفّة، وهو بمثابة دق أسفين في أساس المشروع الصهيوني برمّته لتنطلق لعبة أحجار الدومينو في التساقط الواحدة تلوى الأخرى، لأنّ المشروع الصهيوني عقيدة وتخيّل وتصوّر ومن ثمّة إيمان جامد بما هو هذا المشروع مكتملا، وليس (على المستوى الاستراتيجي) مجرّد مكعّبات يضعون الواحدة تلوى الأخرى.

من ذلك، يستحيل أو هو سابع المستحيلات :

أوّلا : العود إلى نقطة «ما قبل الأزمة»، وعودة كلّ طرف إلى قواعده سالمًا. الكيان الصهيوني أعلنها صراحة، أنّ بمجرّد غلق ملفّ غزّة، يكون لزامًا «التفرّغ» لما يسمّى «العدوّ الداخلي».

ثانيا : من المستحيل على أيّ طرف القبول بتقديم تنازل أو التسليم بأيّ «ضمانة» من أيّ طرف كان. حين لا ثقة سوى في الذات وبدرجة مختلفة في طيف من الحلفاء.

هي لعبة من يصبر أكثر ومن يتحمّل الألم لوقت أطول من غيره، ومن يملك القدرة على إلحاق الضرر أكثر بالطرف المقابل. من يصرخ الأوّل يكون قد خسر المقابلة.

 

من ناحية أخرى، لا يمكن لمقابلة «الملاكمة» هذه وإن كانت بأسلحة مختلفة عن بعضها، أن تدوم إلى ما لا نهاية، ودون سقف زمني :

أوّلا : تعلم الولايات المتّحدة الأمريكيّة أنّ ارتباط الملفّات الفلسطينيّة ببعضها البعض، ليس فقط يخلط أوراقها، بل يحرق جميع ما أنجزت منذ أن صارت علاقتها بالكيان الصهيوني استراتيجية (أي بُعيد النكسة ـ جوان/حزيران 1967)، وعلى رأس ذلك ترتيب الأمور التي انطلق فيها جوزيف بايدن بُعيد وصوله إلى البيت البيض، بمعنى «تسكين الوضع» والانطلاق نحو الشرق الأدنى، للحدّ من طموحات «المارد الأصفر» أيّ الصين.

لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكيّة، رغم حاجتها الاستراتيجيّة للكيان الصهيوني ورغم الوظائف الاستراتيجية التي يؤديها في خدمتها، أن تترك هذا الكيان يقامر برأسمالها، ويضع مصالحها موضع الخطر. لذلك هي «فسحة أمل» متروكة أمام هذا الكيان، لأيّام معدودات، لتحسين وضعه ودخوله في «هدنة» تحفظ له ما أمكن من «ماء الوجه».

ثانيا : سواء عن إصرار وقصد أو هي بفعل الغضب والحميّة، الشاب الذي صاح مستنجدا بالمقاومة في غزّة، أسّس دون أن يدري أو هو يدري، لما يمكن أن نعتبره «استحقاقا» لا يمكن الهروب منه.

مثلما جرّت «الحلقة الأصغر» (شباب القدس) «الحلقة التي تلي» (المقاومة في غزّة) إلى المواجهة، الحلقة أو الحلقات الأوسع ليست فقط مجبرة على التدخّل، بل هي مسألة وجود، حين لا يمكن، في حال تفاقم عنف الصهاينة في غزّة، القبول بهذه «المجازر»… لأن كسر آلية «النجدة» داخل حلف المقاو يطعن هذا الحلف مقتلا…

Gaza3من «حتميات تاريخيّة» سواء في الجانب الصهيوني، حين لا يمكن بل الأمر من سابع المستحيلات الاعتراف أو القبول أو هو التسليم بمجرّد فكرة «مناقشة» وضع القدس والداخل الفلسطيني والالتزام بعدم اتخاذ أيّ اجراء لا ترضى به المقاومة في غزّة وحلفاؤها داخل فلسطين، لأنّ ذلك يعني ضربة «الشاكوش» (المطرقة) الأول والقاتلة في قلب الكيان، أو من جانب حلف المقاومة، الذي لا يمكنه القبول بأيّ صورة من الصور بتدمير غزّة، كذلك من سابع المستحيلات أن يقف حلف المقاومة جامدا لا يتحرّك أمام تدمير غزّة والامعان في الفتك بشعبها.

من ذلك يبقى سؤال حاسم على درجتين :

أوّلا : ما هو السقف الممنوح من قبل جوزيف بايدن للصهاينة لتحسين وضعهم العسكري، وكذلك (وهذا لا يقلّ أهميّة) من يستطيع من «الوسطاء» (من ذوي القربى) في لجوء لألف جزرة والتلويح بملايين العصيّ افتكاك وعد تحت أيّ صفة كانت، وإن كان ضبابيا من أيّ قيادي في غزّة خاصّة ممن يمسك بالقرار العسكري ومن ثمّة بناصية القرار السياسي، بالقبول بهدنة على شكل ما كان يلي العدوان في نسخه السابقة؟

ثانيا : ما هي المعايير التي وضعها حلف المقاومة للتدخّل، وإن كان يفضّل لأسباب تكتيكيّة كما استراتيجية أن تفي المقاومة في غزّة بالواجب وتقهر الصهاينة بمفردها؟

من تقاطع السؤالين تبدو معادلة الصراع مفتوحة على احتمالات عدّة، أقصاها عودة محتملة للولايات المتّحدة إلى المنطقة بجيوشها الجرّارة والسقوط في مستنقع حرب، هي بصدد التخلصّ من شبيهاتها (في أفغانستان) أو تجد صعوبة شديدة في إيجاد قدم ثابت لها (في العراق) ليكون اليقين أنّ انقاذ الكيان (في حال أمكن إنقاذه طبعا) سيكون مكلفا بدرجة لا قبل للولايات المتحدة القبول به. كذلك في المقابل لا يمكن للولايات المتحدة أن ترضى بهزيمة قد تذهب بالكيان الصهيوني.

تعلم المقاومة في غزّة أنّ أيّ تضحية مهما كانت مكلفة سواء في صفوفها أو بين المدنيين، تأتي أقلّ كلفة بجميع المعايير من القبول بهدنة «ثنائيّة» تترك للصهاينة حريّة الذهاب في تأديب «مواطنيها» من عرب الداخل، وإعادة مسلسل مخيّم جنين في الضفّة…

إضافة إلى علاقة التناظر القائمة بين «الملاكمين» (الصهاينة مقابل المقاومة في غزّة) يأتي الجمهور المتفرّج شديد الاهتمام بما هي هذه «المقابلة» وأوّلهم تركية وقطر.

الأولى في الآن ذاته، عاجزة بفعل تركيبة اقتصادها شديد التأثير بأيّ قرار غربي بالمقاطعة، ونمط علاقاتها مع الولايات المتحدة وحجم ارتباطها بالحلف الأطلسي في الآن ذاته، عن منع الصهاينة بالذهاب نحو الأقصى في ممارسة العنف تجاه المدنيين في غزّة. كذلك ذاتها عاجزة لأسباب تاريخيّة (أهمّها الملفّ السوري) عن أن تكون طرفا في «حلف المقاومة». بالتالي هي خارج المعادلة، وستدفع ثمنا قاسيا في الحالتين.

قطر هي الأخرى، المتورطة حدّ النخاع في «المستنقع الفلسطيني» قدّمت دعما ماليا لا يمكن انكاره للمقاومة في غزّة أو بالأحرى لطرف منها (حماس بالتحديد) تجد ذاتها في وساطة أبعد من قدراتها وأعمق من أن تفي بشروطها مليارات الدولارات، لتكون هي كذلك «رهينة» القصف المتبادل بين المقاومة في غزّة والكيان الصهيوني، ليكون تدمير مكتب «قناة الجزيرة» مجرّد «قرصة أذن» وتذكير بأنّ تطويع المقاومة في غزّة «فرض عين» وليس «فرض كفاية»…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي