الديمقراطيّة الأمريكيّة : بضاعتكم رُدّت إليكم…

7 نوفمبر 2020

قدّم «الآباء المؤسّسون» مشروع الولايات المتحدة الأمريكيّة، في صورة «النظام الأمثل» على وجه الأرض، على الأقلّ نقيض المآسي التي عاشتها أوروبا في ذلك العصر. ترسّخ مفهوم «الأفضليّة» هذا غداة الحرب الكونيّة الثانية. مع التوسّع الأمريكي أثناء الحرب الباردة، خاصّة، قدّم المفكّرون الأمريكيون «الولايات المتحدة» في صورة «المثال» الأفضل، نقيض «دكتاتوريّات» المعسكر الشرقي وأنظمة الدول (المسمّاة) متخلّفة.

تدخّلت الجيوش الأمريكي مباشرة عديد المرّات لترسّخ «الديمقراطيّة» (في نسختها الأمريكيّة) بالحديد والنار، كما كان الحال في غراندا، وساندت انقلابات دمويّة في أغلبها دفاعًا عن «الحقّ» في هذه «الديمقراطيّة»، مثل الشيلي…

وزارة الخارجيّة الأمريكيّة وعديد الوكالات الأمريكيّة، المعلن منها والخفيّ، ومعها عشرات معاهد البحث ومؤسّسات التفكير، رعت ولا تزال إلى يوم الناس هذا، برامج «التحوّل الديمقراطي» في جميع أصقاع العالم، خاصّة في عقر دار «المعسكر الاشتراكي» بدءا بدولة بولندا، ومرورًا بما يسمّى «الثورات الملوّنة» ونهاية بإقليم هونغ كونغ الصيني.

مشروع تشترك فيه وتتداول عليه في تواصل الإدارات الديمقراطيّة والجمهوريّة، مع اختلاف أساليب التدخّل بين الطرفين، والحفاظ على الثوابت التالية :

أوّلا : النظام السياسي الأمريكي يمثّل الحالة الأمثل التي وصلت إليها الإنسانية، وفق ما فصّل فوكوياما في كتابه الشهير «نهاية التاريخ».

ثانيا : وجوب أن «ترحل» أنظمة العالم جميعها نحو «المرجع» الأمريكي، خاصّة الدول (المسمّاة) «متخلّفة» وعلى الأخصّ ضمن الفضاء العربي والإسلامي.

ثالثًا : هذه «الهجرة» نحو النظام الأمريكي، لم تجعلها الإدارة الأمريكيّة اختياريّة، بل قامت حروب الخليج جميعها تحت شعار «دمقرطة» دول المنطقة (العراق خاصّة) ومن ثمّة صياغة «شرق أوسط جديد» عملت مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجيّة كونداليسا رايس المستحيل من أجله.

I want you oncle samوجب الاعتراف أنّ منظومة الحكم في الولايات المتحد قد نجحت عبر إعلامها خاصّة في صناعة صورة جدّ إيجابيّة عن «النظام السياسي»، ومن ثمّة حافظت على وهج هذه «المنارة»، رغم التفاوت الطبقي الرهيب وكذلك العنصريّة المتأصّلة في هذا المجتمع.

 

الانتخابات الرئاسيّة الدائرة بين دونالد ترمب وجو بايدن، أبانت عن الوجه الحقيقي التي عليه هذه الديمقراطيّة أو بالأحرى الذي تردّت إليه، حين صار المعجم المعتمد بين أنصار الطرفين المتقابلين أقرب إلى ما شاهد العالم في الدول القمع والبطش والتنكيل بالخصوم، من خوف متزايد على حياة المرشّح جو بايدن من عمليات اغتيال، عبّر عنها أنصار دونالد ترمب عديد المرّات، دون أن ننسى صراخ الرئيس الحالي وتنديده بما يرى أنّها عمليّات تزوير تتمّ على أوسع نطاق.

لم يعد بإمكان «المنظومة الأمريكيّة» تقديم ذاتها في صورة المثال الذي وجب الاقتداء به، وعلى اعتباره «الغد الواعد» للإنسانية جمعاء. أفظع من ذلك حالة الاستقطاب الذي عليه المجتمع الأمريكي بين معسكرين يكنّون لبعضهم البعض نفيا قاطعًا، مع توفّر السلاح بكميّات مهولة، يدفع العديد من الخبراء الأمريكيين إلى القول أن «اندلاع العنف على نطاق واسع» مسألة وقت لا غير.

استطاعت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الكونيّة الثانية أن تؤسّس لنفسها صورة «رائد العالم الغربي» وترسّخت هذه الفكرة عند انهيار «جدار برلين»، بل نظّر خبراء من عديد المعاهد الأمريكيّة أن القرن الواحد والعشرين هو قرن «الثورات الليبراليّة» القائمة على ثابتين لا ثالث لهما : الحريّات الفرديّة وكذلك اقتصاد السوق، ممّا سيوسّع من حجم الإشعاع الأمريكي في العالم.

هذه الصورة تبخّرت حين اعتبر عديد المتدخلين على القنوات الأمريكيّة خاصّة، أن ما يجدّ خلال هذه الانتخابات، يتجاوز بكثير الصراع الطبيعي والمشروع بين مرشحين لمنصب رئيس «الدولة الأعظم» في العالم، ليمسّ وجود هذه الديمقراطيّة ذاتها، ومن ثمّة لم يعد من الممكن «تكييف» العنف مثلما كان الحال دائما مع التفاوت الطبقي الرهيب والعنصريّة المستشرية، في صورة «الفعل المقبول»، ليصير السؤال ليس عن قدرة هذه «الديمقراطيّة» على تخطّي هذا «الامتحان» بل إن كان من الممكن الحديث بعد عشر سنوات عن «ديمقراطيّة» أمريكيّة، على اعتبارها فعل راهن ومعاصر، وليس جزءا من تاريخ البلاد؟

الأكيد أنّ «العقل الأمريكي» الذي يعتبر حدود بلاده عند حدود مصلحته، سيجد مستقبلا صعوبة كبرى في تسويق «الديمقراطيّة» المصنوعة في الولايات المتّحدة على أنّها «الحلم» الذي يراود نخب الدول الأخرى. هذا «الحلم الأمريكي» يأتي جزءا مؤسّسا لسطوة الولايات المتحدة وسيطرتها على العالم، أو جزء منه، ومن ثمّة لا يهدّد انهيار هذه الديمقراطيّة هذه السطوة وهذه السيطرة فقط، بل الأخطر هو يضربها في الجذور وينسف أسسها…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي