الرابطة وصندوق الزكاة : من يملك المال يملك السلطة…

17 مايو 2020

ما العلاقة بين «صندوق الزكاة» الذي أقرّته بلديّة الكرم، وقابلته «الرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان» ببيان شديد القسوة، من جهة، وما تشهد البلاد من حرائق، ثبت أنّ بعضها (على الأقلّ) بفعل فاعل، أيّ هي جريمة ثابتة الأركان؟

المال أو بالأحرى السيطرة على المفاصل الاقتصاديّة للبلاد، ومن وراء ذلك الاستفراد بممارسة أنشطة اقتصاديّة (شرعيّة) غير متاحة أمام الجميع، بفعل احتكار غير معلن، أو التمتّع باستثناء غير معلن (هو الأخر)، ارتقى بفعل التعوّد وفعل الزمن إلى «حقّ مكتسب»، لممارسة نشاط «غير شرعي» على المستوى «القانوني» البحت، مثل «التهريب»، على سبيل المثال.

منطق تأسّس منذ قرون أو هو الأزل، حين فهمت الجماعات القائمة على «العقيدة» أنّ «الإيمان» في بعده الروحي، غير كاف بل عاجز، حين لا يكون مرفودًا بالمال وكذلك بالنفاذ إلى مواطن صنع القرار وتنفيذها.

في إيران، أين يحتلّ «الحرس الثوري» أهميّته ومكانته، ومن ثمّة تأثيره ونفوذه، على المستوى الداخلي، ليس من قدراته العسكريّة، بل من نفوذه على المستوى الاقتصادي، وتحوّله إلى أحد أكبر الرأسماليين في البلاد إن لم يكن أكبرهم.

téléchargementفي الولايات المتحدة الأمريكيّة، كذلك تعمل جميع الجمعيات اليهوديّة، من أقصى اليسار الذي يعتبر اليهوديّة مجرّد «هويّة تاريخيّة وثقافيّة» لا غير دون تعاليم الدين وطقوسه، إلى اليمين الديني شديد التطرّف والتزمّت، على جمع المال في شراهة غريبة ومن ثمّة (على سبيل المثال) توفير منح جامعيّة للطلاب المنتمين إليها، مع التذكير أنّ الدراسة في الجامعات الراقية في الولايات المتحدة مكلفة جدّا، ونسبة كبيرة من الطلبة يواصل لعشرين سنة أحيانًا أو أكثر، بعد التخرّج، سداد أقساط القرض الذي توفره البنوك التجاريّة.

في تونس، إحدى الرهانات القائمة منذ غرّة جوان 1955 أي تنصيب «سلطة الاستقلال الداخلي»، كانت ولا تزال تكمن في «هويّة» الجهة الماسكة لمفاصل النفوذ الاقتصادي ومن ثمّة المالي في البلاد، في علاقة وارتباط مع النفوذ السياسي.

حاول الحبيب بورقيبة وبتنفيذ من وزيره أحمد بن صالح، بناء «اقتصاد تعاضدي/اشتراكي» تكون الدولة فيه على النمط السوفيتي (مع أقلّ حدّة) الرأسمالي الأوّل في البلاد، لكن التجربة فشلت، لأسباب موضوعيّة، أوّلها عدم قدرة المجتمع الزراعي حينها وعدم قبوله فكرة الانتقال من «ملكية الأرض» بصفة فرديّة أو عائليّة، إلى ملكيّة جماعيّة، وثانيا، عمل كبار الاقطاعيين من دوائر الحكم الأولى على تدمير المشروع في مهده.

فترة الهادي نويرة، وما هي قرارات «الانفتاح» على المستوى الاقتصادي، تميّزت بفتح الأبواب على مصراعيها أمام القطاع الخاص، بل (والأدهى) عملت البنوك بما استطاعت من جهد على تمكين الصناعيين من تمويلات وقروض متأتية في نسبة كبيرة جدّا ممّا يوفّر القطاع الفلاحي من فائض.

في الظاهر انتقلت البلاد من «اقتصاد الدولة» إلى «الاقتصاد الحرّ»، لكنها فعليّا وحقيقة انقلبت من «اقتصاد السيطرة» إلى «اقتصاد المافيات» التي بدأت في التشكل، وشرعت في وضع العراقيل أمام من يريد الاستفادة من القوانين والاستثمار في قطاعات (نظريّا) مفتوحة أمام الجميع.

خدمة لذلك، وضعت الدولة مقاييس جدّ ذاتية وغير معلنة للتمكين من القروض السخيّة لمشاريع لا تتطلب رأسمال ذاتي مرتفع، وأكثر من ذلك أسّست «وكالة النهوض بالصناعة» المخوّلة حصرًا بتوفير التصاريح، التي كانت تُعطى إلى «أهل البيت» حصرًا دون «الخوارج» ممن ترفضهم «الطبقة المتنفّذة».

عهد بن علي تميّز بسيطرة معلنة وظاهرة ودون مساحيق للمافيات على مفاصل الاقتصاد، حين كان من سابع المستحيلات على من لا يسير في ركاب «مافيا أصهار الرئيس» الحصول على قرض أو ترخيص أو توسيع مشروع أبعد من الحدود الضيّقة المرفوعة في وجه من يريد الارتقاء إلى فوق.

جاءت «الثورة» ولم تُفتح ملفات الماضي، على مستوى «الاحتكار الفعلي» لقطاعات مفتوحة أمام المنافسة دون شروط، ولم يرى النور ملفّ القروض بعشرات ملايين الدينارات التي نالها رجال أعمال دون وجه حقّ قانوني أو وجود الضمانات التي نصّت عليها التراتيب البنكيّة.

بعد 14 جانفي، غاب بن علي الذي كان يلعب دور «رئيس المافيا» الذي يوزّع «مجالات الرزق» ويحدّد نسب الربح العائدة لكلّ طرف، كذلك نجحت مفاصل هذه المافيا وأطرافها في لملمة ذاتها واستعادة نفوذ أكبر من ذي قبل، حين كان بن علي يمعن في الإذلال ويعاقب في قسوة شديدة، وأساسًا لا يتهاون في الانتقام ممّن لا يحترم «الوجه الظاهر» للسلطة، بمعنى أنّ بن علي يمارس دور زعيم المافيا في اقتدار، لكنّه شديد الأصرار على الظهور في صورة «حامي الحمى والدين» وأساسًا «نصير الأرملة واليتيم»، وأكثر من ذلك من يشتغل (وفق عبارات صارت حاضرة في كلّ تدخلاته) «دولة القانون والمؤسّسات».

المافيا الحالية، تتراوح بين عدم الوعي بأهميّة «اللعبة المسرحيّة» التي كان بن علي يصرّ عليها، أيّ ثلاثي «حامي الحمى والدين» [الشرعيّة الدينيّة]، «نصير الأرملة واليتيم» [الشرعيّة الاجتماعيّة]، و«دولة القانون والمؤسّسات» [الشرعيّة الدستوريّة، من جهة، والتعامل مع «الدولة» على أنّها «مزرعة» أو مجرّد «مصنع»، لا تهمّ الصورة (الظاهرة للناس) بقدر ما هو «الانتاج» و«المداخيل».

لا تمتلك هذه المافيا تجربة لا في التعامل المباشر، لا مع السياسة ولا مع الإعلام، حين حرمها بن علي هذا الدور، بل جعل وجود «أباطرة الفساد» في «التجمّع الدستوري الديمقراطي» مجرّد ديكورات للزينة وخزائن للصرف، وكثيرًا ما ضرب من حاولوا التغلغل في هذا التشكيل السياسي وتكوين مراكز نفوذ داخله. كذلك منع على أعضاء هذه المافيا الاستثمار في قطاع الإعلام بتاتًا. حتّى حين فتح المجال أمام القطاع الخاص لبعث إذاعات، فتّت رأسمال بين أطراف متنافسة وجعل الترخيص بين يدي اعلاميين من أتباعه ورفض أن تكون بين يدي المافيات مباشرة.

تكمن أزمة البلاد حاليا في عجز المافيات عن الحفاظ على «ظاهر الدولة» لذلك نرى ونشهد سقوط أوراق التوت الواحدة بعد الأخرى، وتحوّل جزء غير هيّن من السياسيين إلى «عمّال مناولة» لدى هذه المافيا، التي تحدّث عنها سفير الاتّحاد الأوروبي، الذي لم يفضحها لحسن أخلاقه وإيمانه بالحقّ والقانون، بل لأنّ هذه المافيا، أسوة بكلّ المافيات في العالم، تتلبّس قناع «الوطنيّة» أمام كلّ «غزو» أجنبي يريد اقتلاعها من الجذور والحلول بدلاً عنها.

لعبة الحاضر وما يدور راهنًا من حرائق، لا يعدو أن يكون سوى رسالة مضمونة الوصول إلى الجهات التي تريد أنّ تغيّر «قواعد اللعبة المعمول بها»، وبالتالي نحن أمام «اقطاع اقتصادي» يريد المحافظة على امتيازاته «غير المعلنة» لكن في حكم «الحقّ الأبدي»، ومستعدّ للذهاب نحو الأقصى والمجهول ليس فقط ضدّ (ما يسمّى) «الدولة» (في نظره)، والتي لا يزيد دورها (وفق تقديره) عن تنفيذ القرارات، بل كلّ فعل (مهما كان هيّنا) يريد مراكمة المال من منطلق عقدي/أيديولوجي مثلما هو حال «صندوق الزكاة» الذي لا يزعجهم لا في بعده الديني أو لون الجهة السياسيّة التي تقف وراءه، بل على اعتباره «فعل مارق» نبت دون إذن منهم ولا يجب أن يشكّل مجرّد نواة أو بذرة لمشروع (قد) يشكّل (من أي منطلق كان) «منافسًا» لهذه المافيا، وإن كان بعد أجل بعيد.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي