الطلياني: أو كيف خان عبد الناصر ماركس وانجلز…

25 أكتوبر 2015

جاءت رواية «الطلياني» [أي الإيطالي] لكاتبها الأكاديمي، دكتور اللسانيات ورئيس جامعة منوبة بتونس العاصمة، شكري المبخوت، لتدفع إلى العلن أَشكالاً من الصراع ميزت، بل هزّت وفرّقت الساحات الأدبية والنقديّة والأكاديميّة في تونس. صراعُ الأكاديميين مع المبدعين (من خارج الفضاء الجامعي)، وصراع النقاد مع المبدعين (ضمن سطوة مفترضة لهذا، وسيطرة مرفوضة من ذاك).

الرجلُ أكاديميٌ في المقام الأوّل وناقدٌ وها هو يلج عالم «الإبداع»، ليجمع أو تجتمع عنده درجات الصّراع أوّلا، وثانيا ـ هذا الأهمّ ـ يتخذ ـ في جزء غيّر هيّن من الرواية ـ الجامعة التونسيّة فضاءً له، سواء كانت القِدْرَ الذي شهد غليان كامل الطيف السياسي أو الأيديولوجي في تونس، أو ما تعيشه هذه الجامعة ـ وفق ما جاء في العمل ـ من فساد وسوء إدارة واستغلال للسلطة العلمية، بل وصل الأمر حدّ الابتزاز الجنسي.

ثالوث الشخوص الأعرج
غلاف رواية الطلياني - شكري المبخوت

غلاف رواية الطلياني – شكري المبخوت

«عبد الناصر» بطل الرواية الظاهر والمعلن، تدور حوله الأحداث ومن ثمّة شكّلت هذه الشخصيّة، على مدار العمل، محورًا لكلّ الوقائع، حين تدور الشخوص الأخرى حوله دون استثناء، وكذلك خرج الراوي ـ ضمن أسلوب الكتابة المعتمد ـ عن سياق «التوصيف» أو هو «الحضور غير المعلن»، لينقلب ـ في فترات غير هيّنة من العمل ـ «بطلا» بدوره، وشريكا بالفعل، متجاوزًا صورة «الراوي/الشاهد» الذي ينقل الحدث ويؤرّخ ما يجري وما يجدّ.

جاءت شخصيّة «زينة»، الفتاة الريفيّة/البربريّة المتمرّدة على القيم «الاجتماعيّة» أوّلا، وعلى كامل «مجتمع اليسار«، سواء الجامعي منه أو السياسي رغم انتمائها إلى هذا الجذر الفكري، لتلعب دور النقيض المكمّل، بل المستفزّ في أطوار عديدة، لشخصيّة البطل الرئيسي «عبد الناصر»، ممّا سهّل على المؤلّف، نقل محور الاستفزاز وجدليّة الصراع إلى علاقة ارتباط، لم تأت «تقليديّة» في شكلها ولم تتخلّص (وهنا الخطورة) من منطق «المواجهة» بين الطرفين، في اختزال أو تعرية ليس فقط للأبعاد الذاتيّة المؤسّسة للفكر اليساري المبني على التوتّر مع المجتمع والمتناقض مع قيمه، بل عَجَزَ «الزوجان/الثنائي» (رغم تمييزهما بين كلّ من «الزواج» و«الصداق») عن تأسيس علاقة ثنائيّة فاعلة (بالمفهوم الميكانيكي) ومستمرّة (بالمفهوم الزمني)، أو ومستقرّة (بالمفهوم الاجتماعي التقليدي)، سواء ضمن «المنظور اليساري» للعلاقات الاجتماعيّة عامّة والزوجيّة خاصّة، وكذلك عجز الطرفيّن بالتأكيد عن لعب «الدور التقليدي» رغم رغبة راودت كلّ منهما في التخلّص من أوزار الأيديولوجيا وعوائق «الحداثة».

دخلت «زينة» العمل في قوّة شديدة، جعل منها المؤّلف شريكة بالكامل للبطل «عبد الناصر»، بل اتخذت أحيانًا مكان الصدارة، حين أصبحت المحدّد الأوّل لجدليّة الصراع بينهما، إلاّ أنّها سريعًا ما خبت، وسرعان ما تحولت (أو هي سقطت) من «الشخصيّة اليساريّة» (المستقلّة بذاتها) إلى «التابع»، بل الخنوع والمتعلّق بأعتاب البطل الآخر.

 

نار تحرق أخرى…

هي علاقة وهو صراع، بينهما، علاقة الرجل بالمرأة وصراعه معها، علاقة رجل الحضر («البلدي» في التعبير الدارج التونسي) بالأفّاقين، أيّ النازحين إلى العاصمة من عمق البلاد الفقير والمعدم، وهي ـ بالتأكيد ـ علاقة «أهل اليسار» ببعضهما البعض، سواء صراعهم «الجامع» بالنظام وأركانه من منظور المشترك بين القراءات الايديولوجيّة اليساريّة لطبيعة النظام، أو الصراع القائم داخل هذا الطيف بذاته، سواء على مستوى الفروقات الأيديولوجيّة القائمة أو الناشئة، داخل «هذه العائلة»، أو كما أكّد الكاتب أنّها «صراع زعامات»، بالمفهوم الاقطاعي للكلمة…

شخصيّة «زينة» النسائيّة، جاءت قوّية عند البدء، ثم تراجعت في وهن، لتغيب سريعًا، كأنّها ذات استعمال واحد، أو كيان لا يقبل الشحن، على خلاف «الرجل/البطل» الذي أسّس العمل الروائي أو تأسّس على أكتافه.

هو «ثالوث» أو هي قواعد غير متكافئة القيمة. «بطل» محوري لم يغادر المشهد، «بطلة» جاءت في سرعة وقوّة، لتخبو فجأة وتضمحلّ وتغادر، و«بطل» لم يغادر دور «الراوي» سوى ليكون «الشاهد» على فترات حرجة من الرواية.

يمكن الجزم دون أدنى نقاش، أنّ أحداث الرواية ومسارها السردي، مثّل مزيجا فيه الكثير من ذاتيّة المؤلّف وما عاش من أحداث وعاصر من وقائع، وكذلك الكثير ممّا أراد «التأريخ» له من باب الشهادة وحفظ «الحقائق» (وفق رؤية المؤلّف) وأيضًا، جاءت الرواية سبرًا، جمع علم الاجتماع بعلم النفس، للغوص في أغوار الشخوص، دون أن نغفل التراوح بين تحليل المنحى العام السياسي للبلاد وأيضًا الظواهر الاجتماعيّة، التي شهدتها تونس منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي إلى التسعينات القرن ذاته.

يتخذ الكاتب منذ البدء موقفًا أيديولوجيا مباشرًا بل حاسمًا وحازمًا، لم يعمل على اخفائه سواء من خلال مواقف الشخوص ضمن الحراك السردي العام، أو ـ وهذا لا يقلّ أهميّة ـ ما ينطق به «البطل الراوي« للأحداث، سواء عبر التوصيف المباشر للأشياء أو نمط العبارات المنتقاة بشدّة، دون أن نغفل التحاليل والاستنتاجات.

أيديولوجيا الغالب

شكري المبخوت، يساري لا يخفي انتماءه، لكنّه (ضمن هذه الرواية) ناقد لِطَيْف اليساريين الذين مرّوا عبر روايته، نقدًا بلغ من القسوة ـ أحيانًا ـ ما لم يبلغه غيره (من الروائيين التونسيين خاصّة) لكنّه ـ وهنا الخطورة ـ لم يشكّك لحظة في الفكر ذاته ولم يبلغ في نقده حدّ التشكيك في «نوايا» أبطاله اليساريين أو في ما يحملون للبلاد والعباد من مشروع.

في المقابل لم يخف الرجل وقوفه، بل عداءه لمجمل الطيف الإسلامي (في الجامعة أوّلا) ومن بعدها ضمن الحراك السياسي الذي شهدته البلاد خلال الفترة التي شملتها الرواية. لم يكن نقدًا (ضمن المعاني المتداولة للفظ) بل موقفًا معلنًا ورفضًا للمشروع أوّلا وأصحابه ثانيًا.

ثنائيّة النقد اللاذع لليسار والرفض المبدئي للإسلام السياسي، كانت التعلّة أو هي الرافعة التي على أساسها بنى الروائي ما رآها (أو نظّر لها) من تحالفات ممكنة أو ضروريّة ومطلوبة بل طبيعيّة، بدءا بما كان في تونس من حلف اليساريين مع نظام جعلوا من اسقاطه سببا بل العمود الفقري لمشروعهم الأيديولوجي (زمن الجامعة)، حين التحق البطل «عبد الناصر» بعد أن أتمّ دراسته الجامعيّة بالصحيفة الرسميّة للنظام، وارتقى درجات المسؤولية ليصبح أحد المسؤولين عن صياغة خطاب السلطة، وكذلك عملت «زينة» دون هوادة لتنال «جائزة رئاسيّة» من «رئيس» للدولة، يعتبره «الفكر اليساري» عدوّ الطبقة العاملة والشعب بأكمله.

الحلف الثاني الذي أشار إليه المؤلف بل عاد إليه عديد المرّات، هو بين الاسلاميين من جهة وجزء غير هيّن من «البلطجيّة» الذين غيّروا شكلهم من خلال الانتماء للتيار الإسلامي ولم يتنازلوا عن أساليبهم بل جعلوا العنف «البلطجي» في خدمة العنف «الإسلامي» أو هو تتمّة له إن لم يكن مواصلة.

الحلف الأوّل أخذ من الرواية جزءها الأكبر، بل الغالب، سواء على مستوى التبرير أو حتّى تأكيد فوائده، من خلال الإشارة جهرًا والتأكيد على «العدوّ المشترك» بين طيف اليسار بكامله من جهة والنظام الذي شيّد منظومته الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، على اعتباره «حامي الحداثة وراعي أنموذج حياة» جاء الاسلاميون لتدميره.

يصل المؤلّف في عديد المواقف ضمن عمله إلى التأكيد أنّ «الصراع» لم يعد أيديولوجيا (كما أسّس له اليسار الجامعي عند انطلاقته) بل يخصّ «النمط المجتمعي» و«المشروع الحضاري«، ومن ثمّة (كما جاء على لسان سي [السيّد] «عبد الحميد» مدير الصحيفة الحكوميّة) يتمّ التسليم للنظام بالريادة أوّلا ويتمّ الانضواء تحت رايته ثانيا، وثالثًا يتمّ القبول أو غضّ الطرف إن لم نقل التسليم بجرعات الدكتاتوريّة في البدء، وصولا إلى السيطرة الكاملة والشاملة التي أقامها زين العابدين بن علي على البلاد والعباد، رغم أنّ عبد الناصر فضل ـ بعد سنوات من العمل ـ مغادرة الصحيفة الحكومية من باب السعي وراء حلّ فردي وليس القطيعة الابستيمولوجية أو العضويّة مع النظام.

لا يمكن البتّة إخراج الرواية عن المسار الذي تعيشه تونس راهنًا، بعد (ما يسمّى) الثورة، ولا يمكن اغفال التوازي الذي لا يبدو في حاجة إلى الاشارة أو حتّى التأكيد، سواء على مستوى الفرز الأيديولوجي للفاعلين السياسيين في البلاد، أو التحالفات القائمة راهنًا في تونس أو القادمة، أو حتّى الخيارات الكبرى لجدليّة الصراع في البلاد.

هي رواية «تاريخيّة» بامتياز، سرديّة في متنها، لكنّها حاضرة في واقع تونس القائم، سواء جاء الاسقاط عمدًا أو مفتعلا، وكذلك هي رواية غلبت فيها «الحكاية» متن النصّ، الذي وإن كان «جيّد الصنع» حين يدرّس المؤلّف اللغة العربيّة وآدابها وعلم اللسانيات، إلاّ أنّها لم تكن (أيّ اللغة) تحمل ما يكفي من الجماليّة في ذاتها لتؤسّس لأسلوب جديد أو هي «البصمة» التي ميّزت كبار الروائيين. جاء الروائي/الكاتب أقرب إلى «الراوي» (ضمن المعنى الشعبي) من «كاتب رواية» ضمن المعاني الحديثة للكلمة.

تساءلت الأوساط السياسيّة في تونس وكذلك الاعلاميّة عن الهويّة الحقيقيّة للشخوص التي أثّثت العمل، خاصّة السلبيّة منها، ليبرز جليّا، أنّ المؤلّف اعتمد ـ في الجانب الأكبر ـ الطبائع والأفعال أكثر من شخوص الفترة التاريخيّة، في استثناء للبعض منها التي أشار إليها في سلبيّة شديدة وفي عنف أشدّ.

لم تأت شخصيّة واحدة (في استثناء للراوي داخل العمل) تحمل صفات ايجابيّة أو تحيل على صورة مشرقة. يساريون انبطحوا أمام النظام فرادى يبحثون عن مجد شخصي وإسلاميون توزعوا بين تهديد المشروع «الحداثي» والتحالف مع «البلطجيّة»، وصولا إلى صورة اختزلت ذروة هذاالصراع الوجودي، بل برّرت (سيكولوجيا التحالف) حين يروي عبد الناصر كيف اغتصبه (في صغره) إمام أبتر في مسجد. إمام شكّل الصورة السلبيّة «المثلى» لتمثّل التديّن (في تونس) ضمن العمل.

منطق اللهجات أم منطلق الجوائز

القاص القطري جمال فايز السعيد في تقديمه لهذا العمل الروائي ضمن أمسية عقدها نادي الجسرة بالدوحة، تابعها المؤلف عبر الانترنت، أعرب في مزاح عن حاجته لترجمان لفهم بعض العبارات وعدد غير هين من التراكيب التي غلب عليها اللسان الدارج في تونس، لتضع المسألة برمتها، علاقة هذا العمل ـ المشبع بهذه المفردات وهذه التراكيب ـ بالعمق العربي الذي منح جائزة «بوكر».

جائزة أخرجت العمل الروائي الأوّل للأكاديمي التونسي شكري المبخوت من بعده المحلّي الضيّق إلى فضاء عربي أوسع بالتأكيد، ليكون السؤال بين ثالوث العمل والجائزة وهذا العمق العربي؟


24 تعليقات

  1. تعقيبات: vivienne westwood store online

  2. تعقيبات: callaway strata golf clubs for sale

  3. تعقيبات: herve leger uk

  4. تعقيبات: patagonia uk outlet

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي