الغرب يبحث عن «الدفء» في قطر….

16 ديسمبر 2022

لا يمكن للرئيس إيمانويل ماكرون والطواقم التي تشتغل في ركابه، أنّ تفوّت فرصة صعود الفريق الفرنسي إلى الدور النهائي، لدفع شعبه إلى الاستعاضة عن غلاء الغاز ومجمل وسائل التدفئة الأخرى بما هي «حرارة» التفوّق والوصول إلى الدور النهائي في هذه المناسبة الرياضيّة، حين «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» الكرويّة، بما في ذلك لدى ملايين الفرنسيين المجبرين على التخفيض في درجة التدفئة أو أحيانًا التخلّي عن هذه الحاجة التي انقلبت «ترفًا» في مناطق نزلت فيها درجة الحرارة إلى ما دون الصفر.

هي معركة ضدّ الزمن، بمعنى الاشتغال ضدّ الساعة والاستفادة أبعد ما أمكن من الإنجازات الكرويّة، حين اليقين قاطع، أنّ فعل كأس العالم في العمق الشعبي الفرنسي أشبه بجرعة مخدّرات، تملك قدرة الذهاب بمن يتناولها في غياهب النسيان… لكن الاستفاقة واجبة، مهما طال الزمن.

من منظور اقتصادي بحت، وضع فرنسا ليس الأشدّ سوءا حيال ما يسمّى «أزمة الطاقة» التي نشأت عن دخول الجيش الروسي إلى أكرانيا، قياسًا بدول مثل ألمانيا أو شرق أوروبا، وخاصّة دول البلطيق، التي تعتمد على الغاز الروسي بصفة تزيد عمّا هو الحال الفرنسي، لكن هذه «الأزمة» ليس فقط عرّت الاقتصاد الفرنسي وكشفت عيوبه، بمعنى أنّه يعاني من أزمة خطيرة في تركيبته أساسها الاعتماد على الاستدانة للحفاظ على «ظاهر» مشرق. عجز متزايد في سرعة تكبر من يوم إلى أخر، ستكون الدافع الأساسي لتحركات اجتماعيّة، ليس فقط تأتي استمرارًا لحركة «السترات الصفر»، بل (وفق عديد المراقبين) ستكون أشمل وأعمق، وخاصّة أشدّ عنفًا، حين حذّرت أصوات عديدة، بأنّ العمق الشعبي، شديد التأثّر بما هي الأزمة في بعدها الشامل، لم يعد يؤمن في نسب متزايدة، بإمكانيّة «التغيير» من داخل المنظومة الليبراليّة، سواء في بعدها الاجتماعي (النشاط النقّابي) أو السياسي، أيّ الأحزاب السياسيّة القائمة وتبادل المقاعد بينها عبر الانتخابات، ليصل الأمر حدّ اليقين بأنّ «الشارع يمثّل الفيصل» لنيل المطالب، علمًا وأنّ تيّارات يمينيّة متطرفة، خاصّة، تريد استغلال الوضع الاجتماعي المتوتّر، والسعي إلى «قلب النظام» بالقوّة.

على المقلب الأخر، وفي مسعاها لتوفير ما يلزم من «حرارة» توجهت بارن إلى الدوحة لإمضاء عقود تمكّن ألمانيا من الحصول على الغاز القطري، في حركة انفراديّة لم يتمّ التنسيق بشأنها مع بقيّة «الشركاء» في الاتّحاد الأوروبي.

EMبين «حرارة» كأس العالم الذي تجشّم ماكرون من أجلها عناء التنقّل إلى الدوحة وحضور مباراة منتخب بلاده، وما تبع من «خطّة إعلاميّة» سواء الفرحة التي أبداها هذا الرئيس على المدارج، أو تهنئة اللاعبين في غرفة الملابس، من جهة، و«الحرارة» التي سيوفرها الغاز القطري للشعب الألماني، مساحات على مستوى الفكر السياسي، وسعي الطرف الفرنسي كما الألماني، كلّ على طريقة، لمغادرة عنق الزجاجة، حيث انقضى «منطق الجماعة» في أوروبا، لتدافع كلّ دولة عن مصالحها دون استشارة الأخرين، كما فعل المستشار الألماني الحالي أولاف شولتس، حين زار «الشريك اللدود»، لدى الغرب عامّة والولايات المتّحدة خاصّة، دولة الصين الشعبيّة، سعيا إلى عقد شراكات أو بالأحرى تعميقها، علمًا وأن ألمانيا تمثّل الشريك الأولّ للصين داخل الاتحاد الأوروبي.

هي «عدالة السماء»… منتخب ألمانيا لكرة القدم، غادر المونديال وهو يجرّ أذيال الخيبة، بل يمكن الجزم أن أداءه كان سيئا جدّا، ممّا حرم بلاده من «الحرارة» التي وفّرها الفريق الفرنسي لبلاده، في حين حصلت بلاده (أيّ ألمانيا) على ما يكفي من الغاز القطري لتأمين «الحرارة» لشعب بأكمله، بل الأهمّ لمصانع اعتادت الدوران بأقصى طاقتها، ممّا جعل ألمانيا لا تغادر المكانة الأرفع على مستوى الصادرات في أوروبا، خاصّة وأنّ أغلب هذه الصادرات من المنتجات الصناعيّة ذات قيمة مضافة أكثر من مرتفعة.

يمكن الجزم أنّ الحرب في أوكرانيا كما كأس العالم في قطر، يمثلان فرصة لتعرية واقع، سواء في فرنسا وألمانيا، كان مخفيّا، أو هو لم يكن جليّا بالدرجة التي صار عليها، وأكثر من ذلك، الوقوف عند الارتدادات ذات البعد الاستراتيجي لهذين الحدثين. بداء بالأهمّ على جميع المستويات الاستراتيجية، أيّ خروج ألمانيا أو هو انعتاقها من قمقم «الخنوع العسكري» سواء أمام فرنسا الحائزة على السلاح النووي أو الولايات المتحدة، المالكة بمفردها لمفاتيح الحلف الأطلسي، ونهاية بالوضع الفرنسي حين لم يبق أمام باريس سوى اللجوء إلى «التداوي بالأعشاب» أي المسكّنات الكرويّة، علّ حرارة المونديال تنقلب فعلا إلى طاقة لا تنضب أبدًا…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي