الفعل المسرحيّ وإجهاض إله المسلمين: «ألهاكم التكاثر» أنموذجا

31 يوليو 2017

بقلم حاتم التليلي

 

تقديم:

هذا النصّ للكاتب والناقد المسرحي حاتم التليلي، يتحرّك من خلال نظريّة الدوائر والتقاطع، حيث يضع العمل (موضوع القراءة والنقد) ضمن دوائر تعريفيّة عدّة، متكاملة ومتباعدة، منها الديني المباشر أو هي العلاقة بالدين والهويّة ضمن تعريفاتها، وكذلك ضمن الأبعاد الجماليّة. لكنّ التقاطع الأكبر بين تقاطعات هذه الدوائر، يكمن في العلاقة مع «الأخر» (الكولونيالي)، على اعتباره الحاضر/الخفيّ ليس فقط في العمل موضوع الدرس والقراءة، بل (وهنا حرقة التقاطع) أن يتحوّل عن وعي وإرادة أو عن عدم وعي ودون إرادة إلى مرجع ومرصد للنقد، بل للشرعيّة في أبعادها الوجوديّة…

نصّ منفرد، بل نادر دون مثال ودون شبيه، يخرج أو يتولّد (دون اجهاض) من بين أنامل «الراهب» (فكرًا) حاتم التليلي.

قراءة مزعجة تقضّ مضاجع الراحة والكسل في نفوس الكثيرين وقد (ونقول قد) تدفعهم إلى التفكير دون إلهاء غير تكاثر الأفكار وتوالدها إن لم يصبها الإجهاض.

نصر الدين بن حديد

 

بين عبارة «ألهاكم التكاثر» ولفظة «إجهاض» التي وردت باللغة الفرنسية، كان إله المسلمين هو المحدّد في تغيير اسم العمل الكوريغرافي للمخرج نجيب خلف الله، حتّى أنّ هذا الله الذي يتقدّمه، يبدو كما لو أنّه استدار إليه ليطعنه في الصدر، ثم يقرّر المضيّ في حاله تاركا العمل مشطوبا من عنوانه الأول «ألهاكم التكاثر»، ولاجئا في المعجم الفرانكفوني.

ثم إنّ الدلالة الجديدة للعنوان من حيث انتسابها إلى اللسان الفرنسي (Fausse Couche) لا تنمّ إلا عن نوع من الهروب إلى حداثة هي في مرماها كولونيالية، تقدّم نفسها محور السلام وضحيّة أولى للإرهاب، بيد أنّ سلامها ذلك، تفضحه حروبها في خرائط الأرض التي لم تؤمن بعد بموت الربّ. ثمّة ضرب من المراوغة نحو العصف بذلك الله في صورته الغاصبة التي صدّرها إلينا كهنة الإسلام ولكن، يا للأسف: إن كنس الله الآن بات يبنى من منطلقات نوع حداثيّ قائم على ردّة فعل بافلوفية، أو لنقل: إنّه فعل «شيعيّ» السلوك، يبحث عن المظلوميّة ليقدّم نفسه ضحيّة فحتّى إذا ما أثار شفقة الآخرين وحقّق شكلا من أشكال التمكين، تحوّل إلى قاتل.

إنّ المسرحيّ اليوم، أمام فوبيا-الاسلام، لم يعد ينظر أو يؤسس لحداثة من زاوية تشغيل الراهن بمحاورة التناقضات الداخلية بقدر ما أصبح يسقط عليها مفارقات الآخر، حتّى أنّه في معركته ضدّ المنتسبين إلى ثقافة النّوق وخيام الظلام، ظلّ عند حدود المواجهة، فإذا به يجعل من فنّه سلاحا للقتل المحض، أو هو يتحوّل إلى تاجر بارع الذّكاء ليستثمر المقدّس في أعماله، كي يثير زوبعة اعلاميّة تحقّق له نوعا من الشهرة، وهي شهرة لا يأتي مصدرها من عمله الفنّي بصفته عمل له من القيمة الجمالية والفكريّة الشيء الرّفيع، بل من خلال غبار المعارك التي أشعلتها ردود الفعل حول المعارك نفسها.

بهذا الشكل، لن تفصح الحقيقة إلا عن موت الله، فهو من جهة تحوّل إلى بضاعة في يد رأسماليّ يتحدّث باسم السماء بدافع احتكاره، ومن جهة ثانيّة تحوّل إلى سلعة يقتات منها المسرحيّ بغاية استثمارها تجاريّا واعلاميّا، ومن جهة ثالثة فهو العدوّ اللدود الذي اخترعه الكولونياليّ كي يحقّق مشروعية حروبه بعد أن انتفت عنه القدرة على التقدم في اتجاه المستقبل فإذا به يخلق نوعا من «الاضطراب في العالم».

من هذا المنطلق، تمّ تشغيل العمل الكوريغرافيّ لصاحبه «نجيب خلف الله». وإنّه لمن العار أن تكون قراءة هذا العمل قراءة لا بنيويّة تشطب متونه وقضاياه ومقوّماته الجمالية لتدخله حظيرة سياسيّة وإيديولوجيّة، حتّى أنّ الاعلاميّ معيّة الناقد ورهط آخر من الفنانين والمسرحيين والتشكيليين والسينمائيين، لم يبحثوا اطلاقا في مرجعيات العمل ولا حتّى موضوعاته أو تصوراته بقدر ما حرّكتهم نزعة الانتقام من ذلك العقل «السلفيّ» الذي هاجمه، فإذا بالعمل ذاته ضحيّة كريهة الرائحة، بين أشداق، أسنانها منشار سرديات قاحلة أبت إلا أن تكرّس ثقافة قطع الأوصال.

هذه القراءة، لم تمثّل في نهاية المطاف إلا شكلا من أشكال «إجهاض» إله المسلمين، ومحاولة كنسه خارج إقامته النوعية بصفته البريئة، إذ مثلما ذهب «السلفيّ» إلى تشغيله، استثمره الحداثيّ بدافع تجريمه وإبعاده من الوجود، وهما بهذا الشكل يتشاركان في قلب الكوجيطو الديكارتي، الأوّل يتحدّث بالقول «أنا مسلم إذن أنا موجود»، أمّا الثاني فيقول «أنا أدحض الله إذن أنا موجود»، وكأنّ كلاهما لا يحيا إلا من حيث تشغيل هذا الاله في محفل القتل.

ما مصير الله في هذا العمل الكوريغرافي إذا ما نحن قرأناه بشكل آخر؟

HTثمّة أوّلا نوع من الهجرة، وجدت تمثّلها في تغيير الاسم بما هو عتبة العرض ككلّ، ومسلك إلى متونه، وهي هجرة تحطّ برحالها – اصطلاحيّا ومفهوميّا- في تخوم ثقافة مغايرة غير التي حملها العنوان الأوّل «ألهاكم التكاثر»، وإذا ما ترجمت العبارة الفرنسية (Fausse Couche) إلى العربيّة فهي تعني «إجهاض»، وهنا يمكننا الادلاء بالأسئلة التاليّة: من تلك الضحيّة التي سيتمّ إجهاضها لتزور المقابر في سجّلات معنى عبارة «ألهاكم التكاثر»؟ نحن لا نعتقد أنّها تمثّل تلك الملّة من السياسيين الذين أراد المخرج نقدهم في عمله رغم أنّه ادّعى ذلك، وألا تعدّ تلك الهجرة نوعا من طلب الحماية بالآخر خوفا من ذلك الاله الإسلامي؟ وألا يكون الله ـ بهذا الشكل ـ هو الضحيّة التي تمّ «إجهاضها»؟

سيبدو الآن في نظر البعض أنّنا نجدّف خارج متون العرض ونحمّله دلالات لم يحملها، إذ أنّ متونه في غير هذا السياق جملة ورمّة وتفصيلا، وعلينا أن نكتفي في نهاية المطاف بتلك المعركة القديمة الدائرة حوله. حسنًا إذن، سنعتقد ذلك مثلما اعتقد البعض، ولكن أليس من حقّنا الآن البحث في تلك المتون وما إذا كانت تفصح فعلا عن عمل كوريغرافيّ رفيع الذّوق؟ إنّ متابعا جيّدا للأشكال التعبيريّة والفنون الأدائيّة والعروض المسرحيّة على صعيد عربيّ وعالميّ سيصاب بنوع من خيبة الأمل الحادّ وهو يتابع هذا العرض، إذ هو قائم على نوع من الانتحال، ولكنّه انتحال إذا ما أردنا تأصيله مفهوميّا، لن نجد له غير جهاز مفهوميّ هو «الكيتش» بصفته يتحرّك ضمن دائرة تقوم على إفساد الذّوق، وذلك من خلال إعادة انتاج أعمال فنّية رفيعة بطريقة مبتذلة وسطحيّة، وننبّه هنا إلى أنّ هذا العرض الكوريغرافيّ، لم يتجاوز في أقصى حدوده الجمالية الأخذ من عرض MAY BE لصاحبه MAGUY MARIN، وهو عرض تعود مرجعيته الأساسيّة إلى نصّ «نهاية اللعبة» للكاتب «صموئيل بيكيت»، وبطريقة كشفتها أكثر من علامة، سيّما مع صرخات المؤدّين وفحيحهم وأصواتهم المأسلبة أو شكل ايقاع مشيهم على الركح من حيث التصاق الأقدام بالأرض وما إلى غير ذلك من العلامات الأخرى.

قد لا يقبل البعض من القرّاء أو متابعي هذا العرض كونه مجرّد فعل فنّي ينتسب إلى «الكيتش»، ولكن من المستحيل أن يدلي بعدم تأثّر صاحبه بذلك العرض المذكور سلفا، وعموما، ليس هنا مدار نقاشنا، بقدر ما هو يبحث الآن عن خلفيّة «ألهاكم التكاثر»/«إجهاض» أو هذه (Fausse Couche)، إذ لا مجال إلى غير ذلك بعد أن تقرّرت الهجرة المفهوميّة معه إلى مدار آخر، وكشفت عن نوع ما من تشغيل الحداثة في أفق الهروب إلى الآخر ومن منطلق مساءلة إله المسلمين!

ما مصير هذا الله إذن في ضوء محاولة «إجهاضه» وشطب «ألهاكم التكاثر» ما دمنا نتّفق جميعا أن متون العرض تخلو من مرجعيّة فكريّة وخلفيّة واضحة؟ وحقيقة نحن لم نتّفق فعلا على ذلك، إذ فينا من ينكر الابتذال الذي حقّقه «الكيتش» الفنّي.

ليس ثمّة هويّة تسكنه غير هويّة الهروب الآخر، ولكن كيف سيرحّب به هذا الذي التجأ إليه والحال أنّه انتحل منه؟ ربّما من باب الشفقة لا أكثر!

ليس ثمّة غير نحر إله المسلمين وهو المنحور سلفا من قبل المتحدّثين باسمه !

ليس ثمّة حداثة بقدر ما ثمّة حداثيون يبنون المستقبل عبر بوّابة المشي إلى الخلف !

علينا فعلا الادراك أنّه بدلا من أن يسقط المسرح في استثمار المقدّس أو استفزازه، وكأنّ لا مناخ له غير الحلبة البافلوفية، بدافع الخديعة السياسية والمغالطة السائدة، ثم في ما بعد يقدّم لنا نفسه على أنّه ضحيّة الرقابة، عليه محاولة استنطاقه، إضاءة أغواره، إعادة تشغيله، وتذويبه في النسيج الكوني لحاجتنا الأنطولوجية الملحّة.

لنتفّق أنّ ألسنة المسرحيين تحوّلت إلى سيوف وسكاكين تهجو الطبري وابن تيميّة، وتصبّ جام سخطها على يافطات عزرائيل وبيارق الله، فإذا بها تحوّلت إلى سلاح محض، خردة ابداعية لا مساحة جمالية لها غير الابتذال الجدانوفيّ، ولنتفق أيضا، أنّها تناست عن جهل، وهذا واضح، ابن عربي والحلاج والسهروردي والغفّاري والنفّري وابن رشد والغزالي، على اعتبارها عوالم مضيئة من شأنها، لو تتمّ عمليّة مسرحتها، أن تضيء فراغنا الروحي في أزمنة القحط والنار والحديد هذه.

لا حوار بين القضايا الكونية الكبرى، بين الميتافيزيقي والوثني، ثمّة فقط الذوبان، الإقامة في النسيج، الجسد العالمي برمّته، مرئيّا كان أم لا مرئيّا.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي