القصرين: لا قصر ولا قصور، ويل وثبور….

19 يناير 2016

عبر كلّ العصور وفي كلّ البلدان، تأتي «الثورات» (أيّ الخروج بالقوّة على السلطة الحاكمة) حين ينتفي الأمل من تحقيق المطلوب (أو جزء منه) بالطرق «غير العنيفة»، وكذلك (وهذا الأهمّ)، حين تعجز السلطة عن فهم المعضلة ومعالجتها (استباقيّا) كما يجب…

تكمن المصيبة (بل بالأحرى أمّ المصائب) أن تختفي «الدولة» خلف «الشرعيّة» ومن ثمّة تفعّل «العنف الرسمي» (القمع في رواية أخر)، في صورة «الحلّ الأوحد» لمعالجة مشاكل ومسائل بل هي مصائب، لا يمكن للعنف أن يزيدها سوى اشتعالاًـ

 

لا يهمّ من يخرج على الدولة ويخرج عن قانونها، الصورة التي تقدّم فيها هذه الدولة ذاتها، ولا يمكن لهذه الصورة» (بمفردها) أنّ تشكّل (فعلا) «الكلمة السحريّة» القادرة على اسكات هؤلاء «المتمرّدين» أو هم «العُصاة» في لغة القدامى…

الخطأ، بل المصيبة، تكمن في فهم أنّ أيّ «حادث» (مهما كان) قادر (بمفرده) على جعل الناس يخرجون على الحاكم ويقطعون معه ذلك «العقد الاجتماعي»، الذي يتأسّس (ضمن الحالة التي قام عليها «الدستور التونسي») على «المواطنة» الضامنة للحقوق والملزمة بالواجبات… لم تستطيع هذه الدولة القائمة الوفاء بالحدّ الأدنى الضامن للاستقرار في ربوع القصرين، كما أنّها عجزت (كلّ العجز) عن طمأنة هذا العمق وجعله يصبر ويتحمّل وينتظر…

الدولة التونسيّة (راهنًا) تردّد أمرين خطيرين، كمثل القرص المشروخ:

أوّلا: الشرعيّة الدستوريّة القائمة على الشرعيّة الديمقراطيّة، التي قامت على شرعيّة «الصندوق»، ممّا يعني أنّ السلسلة والواصلة بين «الصندوق» من جهة وكذلك «الدستور»، يضمن للدولة «الشرعيّة»….

ثانيا: ضرورة «التحلّي بالصبر» وتصديق الحكومة التي تعلن (في صيغة المستقبل) أنّها ستفعل وتفعل وتفعل….

عبر كلّ العصور وفي كلّ البلدان، وفي هذا العصر (بالتحديد) لا تتأسّس «الشرعيّة» على هذا «الدستور» وهذه «الديمقراطيّة»، حين لا يمكن للفرد أن يقنع بهذه «الديمقراطيّة» لذاتها أو يتفرّج على (هذا) «الدستور» (لجماله)، بل السؤال (بمفهوم الطلب)، يكمن في غياب (هذا) «العقد الاجتماعي» أو انفراطه.

لتشبيه الصورة، يمكن القول أنّ «الديمقراطيّة» (ضمن جميع صورها) تأتي أشبه بالشجرة الجميلة في حديقة غنّاء، ليكون السؤال عن «ثمار» (هذه) «الديمقراطيّة» (من قبل العمق الشعبي)، في حين تريد الدولة أن تقنع بأنّ «جمال الشجرة» كاف، أو أنّ «الثمر أت» (دون تحديد الفترة أو الالتزام بموعد).

 

أحداث القصرين

أحداث القصرين

من الغباء (دون استثناء أيّ كان) التصديق أو الترويج للديمقراطيّة أو أي صورة منها، دون الحديث أو هو التأسيس للعدالة الاجتماعية، وتوزيع عادل للثروة وتساوي الجميع أمام الفرص. لم يعد ممكن (في تونس أو في غير تونس) تصريف الديمقراطية، بل هي فعل متعدّ، أي (بمنطق الصرف دائمًا) تحتاج إلى هذه العدالة الاجتماعيّة والتوزيع العادل للثورة والتساوي أمام الفرص.

ليس السؤال (الأهمّ) إن كان شباب القصرين قادر على إعادة سيناريو 17 ديسمبر وأن يكون الشهيد «رضا اليحياوي» صورة عن سابقه «طارق البوعزيزي»، لكن اليقين قائم بأنّ «الساعة الرمليّة» (للدولة)، لأنّ لكلّ دولة «ساعة رمليّة»، قد خسرت حبّات ثمينة جدّا أو هي دون ثمن…

 

كان على الدولة أن تعي بما أنّها تملك المال والسلطة والسلاح، وتملك «افتراضًا» عددًا من الخبراء ومن هم على علم بالمجتمع، أن تعي أنّ القصرين ستكون وصمة عار في وجهها، وعلى الجميع أن يعي (في شدّة) أنّ لا «شرعية الانتخابات» أو «منطق الصندوق» ولا «ناموس الدستور» قادر على اسكات هذه «الجحافل» من الغاضبين الذين يحسّون فعلا أنّ الدولة خدعتهم، حين لم تف بالحدّ الأدنى بما هو واجب عليها من «شعارات» الحراك الشعبي الذي انطلق يوم 17 ديسمبر.

من الطبيعي والمعقول ومن المشروع، أن يرى هذا الشباب الذي كان خرج في السابق يوم 17 ديسمبر 2010 أن الثورة تعرضّت للقرصنة أو الاختطاف، حين يركب السياسة في تونس الآن من لم ينزل للشارع في تلك الفترة، بل كان (بطريقة أو بأخرى) إمّا من «أزلام النظام السابق» أو هو «معتكف» (في بيته أو في المهجر).

 

صحيح أن البوليس هو من يواجه الشباب، لكن من الغباء والسذاجة وحتّى السطحيّة، التصديق أن هؤلاء الشباب يواجهون «البوليس فقط»، بل هو في مواجهة مع «دولة» برئاساتها الثلاث، وبرلمانها ومن وراء ذلك أحزاب الائتلاف وكامل الطبقة السياسيّة…

هذه الطبقة السياسيّة، التي منذ 14 جانفي إلى الآن عجزت عن التأسيس لمشروع مجتمعي، تعيش صراعات أشبه ما تكون بصراعات الديكة من أجل الفوز بالدجاجات، بدءا بالحوار الوطني ووصولا إلى هذا التوافق الذي قيل أنّه يحفظ البلاد والعباد…

 

أحداث القصرين

أحداث القصرين

من الغباء التصديق أنّ هذا الشباب خرج وحمل الحجارة وغامر بحياته من أجل مصالح مباشرة… لم تفهم الحكومات المتتالية ولم تع أنّ الذي يركب البحر دون أن يخشى الغرق، وكذلك الذي يهدي روحه إلى التنظيمات الارهابيّة، هو شخص يبحث عن «مشروع» ويريد أن يكون طرفًا في «انجاز»، حين تروّج الدولة وتفاخر أنّ «الديمقراطيّة» (في ذاتها) هي «المشروع» وأن «الدستور» (في حبره) هو «الانجاز»…

 

ستخرج علينا الطبقة السياسيّة دون استثناء، لتحاول إمّا تجريم المتظاهرين أو الوقوف في وسط الملعب أو ركوب الأحداث، لتتحوّل «أحداث القصرين» إلى وسيلة للمزايدة السياسيّة، أو هي سلاح ضمن تلك الحرب التي لن تنتهي. أي أنّ أهل السياسة سينزلون من برجهم العاجي لتلقف الكرة والعود بها إلى ذات البرج العاجي….

 

يمكن الجزم أن «شباب القصرين» مغدور، وكذلك الشباب الذي يرتدي الزيّ الرسمي ويمسك الهراوة أو الغاز المسيل للدموع أو حتّى الرشّاش… الأوّل خرج من أجل وعود دون رصيد، والثاني يمارس القمع بناء على سياسة نفذ شحنها…


3 تعليقات

  1. ولكن اليس من الغباء ايضا ان يراد لنا ان نقتنع ان هذه النكبة السياسية لاتعي امورا بديهية كمثل ان الديمقراطية والدستور انما هما من جملة الاليات لتحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة وارساء دولة القانون ؟ وهذا تأكيد آخر “ان شاء الله يكون الاخير” ان هذه النكبة السياسية من يحكم ومن يعارض في الظاهر ما هم الا دمى متحركة في ايادي ‘المسهول الكبير”. عقار ما ينفع فيه عقل ولا تدبير

    • الوعي، عندما نستعمل اللفظ، لا يعني (في ما يخصّ النخب الحاكمة) المعرفة الموضوعية أو الادراك الحسّي، فقط الانطلاق في الفعل والممارسة وتحويل القول إلى عمل وتطبيق.
      بدون ذلك، نكون أمام مثقف أو جامعي، يحدثنا عن مفاهيم

    • صباح النور والورد والفل القيرواني الاصيل استاذنا الفاضل. هو ذاك ما أوجزت فبلغت اذا لم يتحول القول والمفاهيم الى ممارسة فعلية وعمل تطبيقي منبثق من المعرفة الموضوعية والادراك الحسي بالواقع المعيشي والمعاناة اليومية للشعب الذي كلفهم حين انتخبهم ليخدمه لا ليخدمهم (وهذا ما نعيشه بكل اسف من ثقافة التسلط والجري وراء المصالح الشخصية والحزبية المقيتة الموروثة عن ممارسات التجمع البائد المتجدد “كطائر المينرف” لكن في حلة اخرى “نينا” ربما هذا الطائر الذي صدع به الشيخ التكتاك. ولكن ان شاء الله مسار الثورة وجذوتها باقون في التقدم والاشتعال ولو ببطء وبمسارات متعرجة يبقى الامل قائما. محبة

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي