النهضة والنداء: طلاق المراكب في بلد العواصف…

7 يناير 2018

حين نلخّص السياسة في أبعادها الفاعلة، وحين نخلّص فعلها من شوائب الشطحات العبثيّة، أيّ الفعل السياسي الذي لا يؤتي نتيجة، نجد بعد التمحيص والحصحصة، أنّ لا سياسة في البلاد، سوى ما هي «الدولة العميقة» بفروعها الأمنيّة والإداريّة وحتّى الثقافيّة، دون أن ننسى أحزابا تناسلت وتناسخت منذ زمن «الحزب الاشتراكي الدستوري» إلى «التجمع الدستوري الديمقراطي» ومخلفاته، من ناحية، مقابل «الكوكبة الاسلاميّة» ممثّلة في عمودها الفقري «حركة النهضة» وما يتفرّع عنها من جمعيّات دون أن نغفل غيرها من الطيف الإسلامي.

بقيّة الأحزاب والكيانات السياسيّة، سواء هي من لزوميات ما يلزم لصناعة «الصورة الديمقراطيّة» والمحافظة على وهج يستحقّه تسويق هذه «الصورة» إلى الخارج (خاصّة)، أو ما هو لزاما لتدوير فائض الطاقة السياسيّة من باب درء الهزّات الاجتماعيّة، دون أن نغفل ما يملك «اليسار» (في صيغة الجمع) من «مراكز قرار» ممنوع تفعيلها للوصول إلى السلطة، بل هي ضمن التقاطعات التي يتأسّس عليها مشروع المجتمع القائم منذ الاستقلال وكذلك ضرورة المحافظة عليه واستدامته…

 

ضمن هذا المعنى وأمام هذه الخارطة السياسيّة، وجب التمييز في جلاء والفرز معرفيا ودلاليا وكذلك أجرائيا ومنهجيا، بين متطلبّات الوصول السلطة، خاصّة عندما صار «الاحتكاك الديمقراطي» (الاقتراع) هو الفيصل، من ناحية، وما هي المتطلبّات الماديّة والعضوية ومنها الأدوات والمعدّات الصالحة والضروريّة لممارسة هذا الحكم، وخاصّة الاستدامة فيها إن لم نقل التأبيد…

لفهم هذه المفارقة أو هو حال الانفصام بمعنى السكيزوفريا الخطيرة، نقف أمام الخطاب الذي أسّس عليه الباجي قائد السبسي «نداء تونس» وعليه قامت كامل الحملة الانتخابيّة في شقيها التشريعي والرئاسي لسنة 2014: أيّ الوقوف ضدّ النهضة وتغوّلها السياسي، وكذلك الحفاظ بل أو هو الدفاع عن «مشروع المجتمع» (المسمّى الحداثي/البورقيبي)، الذي في آن ذاته (وفق ذات المنطق) تعاديه النهضة وجاءت (وفق ذات المنطق دائما) بغاية هدمه (أي مشروع بورقيبة)…

الباجي رئيس 22_3من ذلك نفهم اصطاف الطيف اليساري (بعائلاته المختلفة) خلف الباجي ومشروعه ضمن شعار «التصويت المجدي» vote utile، أي بمعنى أنّ اليسار غير القادر على الوصول بذاته إلى السلطة، مستعدّ للتحالف مع «الرجعيّة الحاكمة» (وفق أدبياته السياسيّة) بغاية الحفاظ على «مشروع المجتمع» القائم كما القادم.

لذلك، وفق أسلوب الانقلاب على الوعود الانتخابيّة، فضّل الباجي قائد السبسي أن يقيم «توافقًا» مع راشد الغنوشي (خصمه اللدود أثناء الحملة الانتخابيّة وما سبقها) على أن يبني «تحالفًا» مع «عائلة اليسار» (خاصّة) التي ساندته انتخابيا ودعمته في مواجهة النهضة. لم يفهم منجي الرحوي ومن معه (ولن يفهموا أبدًا) أن «مركز الثقل» لدى الباجي يتمثّل في الوصول إلى الحكم واستدامة البقاء فيه، في حين أنّ «مركز الثقل» لدى «عائلات اليسار» يتمثّل (نظريّا دون أدنى علاقة بالواقع) بما هو «القاسم المشترك» بين هذه العائلات، وبين «الدولة العميقة»، أيّ «مشروع المجتمع» وما هو نمط العيش من تعليم وثقافة ولباس وكلّ أشكال التعاطي مع الموروث الحضاري عامة والديني خاصّة…

إعلان النداء الطلاق مع النهضة لا يعدو أن يكون سوى رجوعا إلى «منطق الانتخابات» ممن كان في «منطق الحكم»، أوّلا، وكذلك (وهنا الخطورة)، استنزف الحكم «النداء» حين تشظّى إلى أكثر من قطعة، وثانيا (وما هو أخطر) ارتبطت صورة «النداء» المتبقّي (أي الباجي قائد السبسي ونجله) بما هي اخفاقات اقتصاديّة نتجت عنها وصاحبتها توترّات اجتماعيّة، في حين (وهنا مربط الفرس) بقيت النهضة (قياسًا) أشدّ تماسكا، وكذلك لم يرتبط اسم النهضة ولا صورتها بما هي هذه «الاخفاقات» وكذلك هذه «التوترات»، لأنّ راشد الغنوشي، لم يكن يطلب «نصيبًا» (من الملك) كما فعلت شقوق «النداء» أو كما كانت ستفعل «عائلات اليسار»، بل اكتفى راشد الغنوشي وحزبه بجعل النداء ورئيسه مجرّد «واقي» (مثل الواقي الذكري)، يمنع عنه وعن حزبه ما تعجّ به الساحة من «أمراض سياسيّة»، يمكن الجزم أنّ النهضة هي الأقلّ تضرّرًا من دائها…

كذلك (وهذا لا يقلّ أهميّة)، لم يكن التعاطي مع «التوافق» بعدًا مصلحيا بين الطرفين فقط، حين رأى فيه الباجي في ما طرحه الغنوشي «العرض الأفضل» (بالمعنى التجاري)، ورأت فيه النهضة صورة «الواقي» الضامن لما هي «لذّة الوجود»، دون أن ننسى أنه (أيّ التوافق) ضرورة اقليميّة ومطلب دولي، يصعب التفكير في فضّه من قبل الجهات الاقليميّة والدوليّة ذات المصالح المباشرة في تونس.

لفهم «طلاق النداء» ضمن أبعاده السيكولوجيّة المباشرة، علينا العود إلى «بيان (هزيمة) ألمانيا» الذي أصدره النداء حينها، وكيف استبطن (هذا) الحزب صاحب النتائج الأفضل في الانتخابات الفارطة، موضع الدونيّة، حين جعل ذاته (برجالاته وماضيه) ضحيّة «الخداع» (أو هي «نذالة» بالمنطوق النداء) الذي اقترفته حركة النهضة، لنفهم حينها، أنّ «طلاق النداء» لا يعدو أن يكون تلك الجملة الاعتراضية المفتوحة دون حدّ إلى أن تصيب «قبيلة النداء» مرتعا جديدا، تغنم منه ما غنمت سنة 2014، متكلة في ذلك على «غباء» العائلات اليسارية التي تعرضت للدغ أكثر من مرّة (منذ أواسط سبعينات القرن الماضي) من «أفعى» الدولة العميقة…


تعليق واحد

  1. التقارب بين النهضة و النداء انبنى على مصالح ضيقة لا تخدم مصالح البلاد
    ما لا يعلمه اصحاب القرار داخل النداء ان قواعد النهضة مستقلة عن القيادة و هي رافضة لاي تقارب
    المستفيد الوحيد في هذه اللعبة هو حزب النهضة الذي لم يتورط في الادارة الكارثية لشؤون الدولة
    و الاعلان عن الطلاق عملية انتحارية لا يكسب منها النداء الا مزيدا من التمزق

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي