انتفاضة الخبز 84: الخبزة لا تزال مرّة….

3 يناير 2016

مثلت انتفاضة الخبز 1984، التي اندلعت يوم 3 جانفي بالتحديد، أحد أهمّ الأسباب التي قادت إلى استبعاد الحبيب بورقيبة من السلطة، وجعلت «الحاشية»، تتوزّع جماعات وفرقًا، تبحث عن «الوراثة» أو هي «تقاسم السلطة».

الحبيب بورقيبة - محمد مزالي

الحبيب بورقيبة – محمد مزالي

بان بالكاشف (حينها) أنّ الرئيس بورقيبة، لم يعد ذلك «المجاهد الأكبر»، الذي يستطيع أن يفعل ما يريد بما سمّاه هو «حطام من الأفراد» Poussière d’individus، بل أجبرته موازين قوى الشارع حينها على التراجع والعود بمشتقات الحبوب، وسعر الخبز خاصّة إلى السعر العادي.

ثبت حينها، بما لا يدع للشكّ:

أوّلا: أنّ الشعب التونسي، لا تحرّكه الشعارات (في ذاتها)، بل مصلحته وما يرى أنّها مصلحة، حين جاء الترفيع في سعر مشتقات الحبوب أرفع بكثير ممّا يتخيله أو يقبله عامّة الناس

ثانيا: بمجرّد إعلان الرئيس السابق الحبيب بورقيبة عن الرجوع بالأسعار إلى سالف عهدها، تناسى الجميع شهداءهم وتناسى النار الكثيف الذي أطلقه الجيش حينها، وأدّى إلى مقتل العشرات، وراحوا يلهجون بمدح بورقيبة ويقبلون عناصر الجيش كأنّ شيئا لم يكن.

لكنّ في العمق الشعبي وفي الوعي العام، تبدّلت حقيقة مهمّة، مفادها أنّ السياسي (مهما كان) يفهم (هو الآخر) لغة المصلحة، حين فهم بورقيبة أنّ الشعارات المرفوعة، التي طالت شخصه وكذلك «النظام» (القائم بالكامل) على شخصه، يمكنها أن تذهب إلى زوال هذا النظام بكامله. كذلك فهمت «الذئاب المحيطة بالقصر» أنّ «الأسد العجوز» لم يعد في كامل مؤهلاته وليس باستطاعته أن يكون ذلك الذي كان في السبعينات، حين كان الجميع (أو يكاد) لا يملك قدرة النظر إليه في عينيه.

من انتفاضة اجتماعيّة تجد أسبابها في عناصر موضوعيّة، قلب بورقيبة المعادلة وعاد (على مستوى الصورة الظاهرة) ذلك «الأبّ الراعي». صورة يجد فيها الشعب راحة كبرى (ولا يزال إلى يوم الناس هذا)، وكذلك صورة تمثّل (بالنسبة لبورقيبة) العلاقة الطبيعيّة (أو هي «المثاليّة»)، مع شعب كان يعتبره (كالبلاد بكاملها) من «خاصّة ممتلكاته»…

حين العود بالتحليل إلى ما أصبح يسمّى تاريخيّا «أحداث الخبز»، يمكن الجزم أنّ إعلان «الوزير الأوّل» (محمّد مزالي) حينها، عن الرفع في أسعار مشتقات الحبوب وسعر الخبز خاصّة، مثّل فسخا للدولة وانسحابًا لها ممّا هو «العقد الاجتماعي» الذي أسّس له بورقيبة منذ اليوم الأوّل لسلطته بُعيد الاستقلال، حين أرسى دعائم دولة تضمن للشعب، «الطعام والتعليم والصحّة» (أساسًا)، ضمانًا يشمل الجميع (أوّلا)، وثانيا (والأهمّ)، يأتي في كلفة زهيدة، أو هو بالمجان (أو يكاد) بالنسبة للتعليم مثلا.

انتفاضة الخبز مثلت امتحانًا صعبًا لسعي دولة بورقيبة، ممثلة في حكومات الراحل الهادي نويرة، في المزج بين شيئين يبدوان في قمّة التناقض:

أوّلا: الدولة الراعية، التي تلبّي نرجسية بورقيبة ومثلت الراعي لمصالح الطبقات السفلى وحتّى الوسطى، وأساسًا الرافعة الضامنة (بفضل التعليم والصحة) والفاعلة على مستوى ارتقاء درجات السلّم الاجتماعي،

ثانيا: دولة ذات نظام ليبرالي، أراده الهادي نويرة، أن يكون الرافعة للاقتصاد التونسي، خاصّة مع قانون «أفريل 72»، الذي فتح الباب أمام الشركات الأجنبية وأراد تحويل تونس إلى قاعدة خلفية لهذه الشركات، بما تملك من طاقة انتاج ممثّلة في مئات الآلاف من خريجي وخريجات معاهد النظام البورقيبي.

تبيّن بالكاشف ودون الحاجة إلى الكثير من التحليل، أن الجانب «الليبرالي» في الدولة، تغوّل وجعل يقضم رويدًا رويدًا من نصيب «الدولة الراعية»، ومن ثمّة لم يكن من بدّ من أن تصير البلاد إلى «حسم أمرها» بين الخيارين، حين ثبت (بما لا يدع من شكّ) عدم قدرة هذه الدولة على التوفيق بينهما، أو (بالأحرى) عدم وجود «طبقة سياسيّة» قادرة على صياغة «مثال تنموي»، يجمع بين «الدولة الراعية» وكذلك «الفاعليّة الاقتصاديّة»….

لم تحسم تونس أمرها، أو بالأحرى هذا الأمر إلى يوم الناس هذا، حين لا تزال المطالب الاجتماعيّة، تتأسّس على ضرورة «التعديل المتواصل» للأجور بما يوافق «الارتفاع في الأسعار»، في حين كانت طبقة رجال الأعمال ولا تزال، تصرّ (تحت تعلّة المنافسة العالميّة) بجعل السوق وحده من يفرض «المعادلة»، أي أن تكون الأجور وتتأسّس المنظومة الشغليّة على أساس «العرض والطلب»…

على مستوى «القطاع العام» كانت الأوضاع (ولا تزال) «الأقلّ سوءا» ضمن الخارطة النقابيّة في البلاد، حين أحسّت الدولة، منذ زمن بورقيبة، وخصوصًا أحداث «جانفي 76» بأمرين خطيرين:

أوّلا: أهميّة وجود «مركزيّة نقابيّة» قادرة على مسك الطبقة العمّالية، وجعلها لا تراوح أبعد أو أوسع من المسموح به.

ثانيا: عجز المنظومة الاقتصاديّة في تونس عن الذهاب في «انفتاح (اقتصادي) دون حدود»، أي «تعيين الأجور» وفق قاعدة العرض والطلب، مع ضمان الحدّ الأدنى من «الاستقرار الاجتماعي»….

المعادلة ذاتها، لا تزال قائمة بحذافيرها، ودون أن تتغيّر قيد أنملة، حين يتراوح الأمر، بين اصرار القوى النقابيّة على رفع الأجور، واصرار مقابل من الأعراف على عدم الترفيع أو هو التخفيض أو التراجع عن مكاسب عمّاليّة، في حين كانت الدولة ولا تزال تلعب دور «الوسيط/والراعي»، ومن يملك (افتراضًا) قدرة التعديل، لكن (راهنًا) بقدرة أقّل (بكثير) ممّا كان، ممّا جعل اصرار النقابات على الاضراب يتزايد، وتهديد الأعراف بغلق المصانع يتزايد هو الآخر.

تونس لا تزال، بل هي في عين العاصفة، التي هبّت على البلاد، يوم 3 جانفي 1984، مع عوامل سلبية أخرى تجعل الاشتعال أقرب إلى الواقع:

أوّلا: عدم وجود «شخصيّة» قادرة على لعب دور بورقيبة، وتملك القدرة على التراجع والعود بالمسألة أو بالمعادلة إلى «نقطة البداية»، في حال «فلتان الأمر»،

ثانيا: فترة 17/14 أفهت الشعب أو جعلته يقتنع أنّه «قادر على صناعة التاريخ» (بمفهوم اسقاط النظام)، في حين أنّ الجماهير التي خرجت في جانفي 1984، كان أقصى همّها عودة الأسعار إلى حالها، وأن يواصل بورقيبة لعب دور «الأبّ/الراعي»

ثالثًا: تداخل الوضع السياسي العام، وما هو صراع الأحزاب (أو ما هو أخطر الصراع داخل الأحزاب)، مع البعدين الاقتصادي والاجتماعي، يجعل المعادلات جميعها أكثر تداخلا عمّا كانت عليه في السابق، بل يمكن الجزم راهنًا، أنّ لا فوارق البتّة بين هذه المعادلات…

من ثمّة، يمكن الجزم أنّنا أمام حال من التوتّر (الاجتماعي) الذي ينذر باحتمال عودة الشعب إلى الشارع، ليس من أجل «الخبز»، بل من أجل «الخبزة» (ضمن المعنى الاجتماعي الدارج»…


360 تعليقات

  1. حيبي الله ونعم الوكيل في الفسدة اما نرجع ونقول الحل في ايدينا فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم. محبة وكل عام وانت بالف خير تمنياتي لك ولكل وطني ثوري بالتوفيق والهناء

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي