بسيّس واستبطان الهزيمة: من الصراخ (الأجوف) إلى البكم (الحافي)…

20 ديسمبر 2017

عندما ننزع دون جميع الاعتبارات العاطفيّة وكذلك الشحن السياسي وما يتبعه من اعتبارات أيديولوجيّة، ونذهب في تحليل عقلاني لما جاء في كلام القيادي في «نداء تونس» برهان بسيّس بخصوص «نكبة ألمانيا»، نجد منذ الكلمات الأولى أنّه يسلّم تسليمًا لا غبار عليه ولا لُبس فيه بأمرين: أوّلهما بمبدأ الهزيمة ذاتها، وثانيهما أنّ «النداء» لم يكن في وارد أن يحقّق النصر (مهما كان شكله) بمفرده، ومن ثمّة جاء النقد شديدًا لحركة النهضة، سواء الفكر أو القيادات أو القواعد.

خطير جدا (بمفهوم التحوّل في فكر النداء) هذا الشعور بالدونيّة والقبول به، وحتّى التسليم، ومن ثمّة الانطلاق في العراك والمحاسبة وحتّى الاتّهام وربّما التخوين، وصولا إلى «طلاق» (ما)، بناء على هذا الأمر، وما هي المسوّغات التي استبطنها (سي) برهان بسيّس، سواء على مستوى «القبول» أو هو «التسليم»، وثالثًا، ما قدّم من «قراءة» تحطّ من قيمة النهضة (الفكر والقيادات والقواعد)، حين وجب (من منظور سوسيولوجي وسيكولوجي) اعتبار هذا «الشعور» (في ذاته) أخطر من «الحالة» (ذاتها)، أيّ تسليم «الضحيّة» بالوضع التي تردّت إليها أخطر (ألف مرّة) من «الانهيار» ذاته.

من الأكيد وما لا يقبل النقاش، أنّ حال «النداء» وما آل إليه من وهن وضعف، وكذلك من اعتراف وخاصّة التسليم وأشدّ منه القبول، وأشدّ من الشدّة عدم الاكتراث، الذي لم يأت من عدم ولا يمكن أن يكون سوى محصّلة طبيعيّة لمسار من الانحدار، الذي بدأ وانطلق، عند التأسيس، بين ما تنادوا ذات يوم، وكلّ يحمل «شيطانًا» في جيبه (كما يقول المثل الدارج في تونس)، لتنطلق «معركة الشياطين» منذ المنعرج الأوّل وما تلاه من منعرجات، بدءا بالاعداد إلى الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة، وما جاء بعد ذلك من تقاسم للمناصب/الغنائم عند تشكيل الحكومة…

من منظور سيكولوجي (بحت)، يمكن الجزم أنّ «الربح» وكذلك «الفائدة» ومنطق «الغنيمة»، أهمّ ألف مرّة، لدى «الندائيين» من كيفيّة تحصيل هذا «الربح» وهذه «الفائدة» وهذه «الغنيمة»، بل شاهدنا في العلن، وعلى الشاشات وعلى الملأ، كيف تداعى «الندائيون» إلى «حروبهم الأهليّة» في عنف شديد غير آبهين بما هو «الماء والملح» (رمز اللحمة في الوعي التونسي) الذي جمعهم، ومارسوا تجاه بعضهم البعض «عنفًا» لفظيا وماديّا، على درجة كبيرة من الشدّة والفضاضة والفحش، بل فضحوا بعضهم في دقائق الشقائق، أي على مستوى التفاصيل المملّة، التي لا يمكن لمن يملك ذرّة «حياء» واحدة أن يذكرها، ليس من باب الأخلاق (في معناها العامّ)، بل (وهنا الأصل) من باب التعفّف عن الذكر والترفّع عند المقدرة.

bor1في مقابل «نداء» جاء منذ اللحظة الأولى أقرب إلى «عويل» ذئاب جائعة في عزّ شتاء هبطت فيه الحرارة إلى ما تحت الصفر، وصارت فيه الفرائس نادرة، بل قد تكون غابت، جاءت «النهضة» أشبه بمن «يبيع قردة الدنيا جميعها، ويسخر من الشاري» (وفق المثل التونسي الجاري)، حين فهمت قيادة هذه الحركة «الإسلامية» أنّ النداء (القيادات والفكر) يهزه الطمع، ومن ثمن لا دواء لهذا «الطمع» سواء الوعود التي جاء الكثير منها أقرب إلى «صكوك منعدمة الرصيد»…

بيان النداء الذي جاء عقب «نكبة ألمانيا» أقرب إلى «البكاء» منه إلى القراءة العقلانيّة، بل هو «عويل» من فقد إرث والده وما ترك له، في كازينو، تأتي النهضة صاحبة النصيب الأكبر في رأسماله، أخطر منه استبطان الهزيمة والتصرّف على أنّها من عاديات الأمور… عندما ندقّق النظر نجد أنّ النداء هو من حفر الجب بنفسه وأسقط ذاته، بل اندفع كما يندفع الثور الهائج، وعندما تيقّن من «الهزيمة النكراء»، لجأ (كما يلجأ العقل العربي العاجز عن تحمّل المسؤوليّة) إلى «منطق المؤامرة»، بل هي «الخيانة» أو «الطعنة في الظهر»، من قبل من حسبه (افتراضًا) «شريك التوافق».

حسابيّا ودون الحاجة إلى عمليات معقدّة، وفي استناد إلى نتائج الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة لسنة 2014، يمكن الجزم أنّ النهضة تملك القدرة (حسابيا) لجعل مرشّح النداء ينال أكثر بكثير جدّا ممّا حصل عليه من أصوات، لكن حسابات البيدر النهضاوي اختلفت أو هي تعارضت مع أطماع الحقل الندائي للسببين التاليين:

أوّلا: «مساندة» النهضة لمرشّح النداء (الكلاميّة)، جاءت بناء على «التوافق» أو هي مستلزمات هذه «العلاقة» دون أدنى قناعة بوجوب أن يفوز ندائي بمعقد الدائرة الألمانيّة، ومن ثمّة لم تتحرّك «ماكينة» النهضة، البتّة، أو بالحدّ الأدنى، شعارها في ذلك، أنّ «عدم الترشّح» وعدم تحريك القواعد ضدّ «مرشّح النداء» كاف أو هديّة، على اعتبار أنّ النهضة فسحت المجال لهذا «الشريك»

ثانيا: اليقين قائم بين طبقات النهضة، بدءا براشد الغنوشي (شخصيا) وصولا إلى أبسط «منخرط» بأنّ «التوافق» لعبة «فوقيّة» تخصّ «الفعل وردّ الفعل السياسي» في علاقة برسم السياسات وتشكيل الحكومة وما يتبع من لعبة برلمانية، ومن ثمّة يستحيل أن يتحوّل هذا التوافق أو يمسّ «العمق الشعبي» الذي بالكاد قبل عن مضض أو هو من باب «فقه المحرّمات» ما هو قائم من «زواج المصلحة» مع «النداء».

لذلك، لم تدفع قيادات النهضة بما تملك من «ماكينة» تعمل وفق طاعة «أولي الأمر»، لأن راشد الغنوشي ومن معه، يعتبرون أنّ فوز مرشّح النداء حاصل بطبيعته، وثانيا لا فائدة من أن يكون النصر ساحقًا، وثالثًا (وهذا الأهمّ)، لا حاجة لقيادة النهضة أن تنزل بما هو «التوافق» من مداره الفوقي إلى «التفعيل الشعبي»….

على المستوى السيكولوجي، مفهوم ومقبول بل مشروع ما قاله برهان وما ذهب فيه سردا وتحليلا لما يراها «نفسيّة النهضة» الخائنة، لكن (وهنا الخطورة)، فعله هذا أشبه بما هو انتحار «الساموراي» في اليابان، دون أن يملك (سي) برهان، لا شجاعة هؤلاء «الفرسان» أو ما تربّوا عليه من شهامة ونبل ورجولة. فقط هو معول هدم وتدمير للنداء، سواء هي نظريّة «المؤامرة»، أو يكون «طاح فيه الماء والملح»…


تعليق واحد

  1. التحليل قريب من الحقيقة وعميق في الواقع تحياتي استاذ نصر الدين

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي