«بعضنا» هزم «جميعهم»….

8 أغسطس 2022

تجاوزًا وقفزًا فوق القراءات الفلسفيّة المجرّدة عند الإغريق القدامى عن علاقة «الكلّ» بما هو «البعض»، وتجنّبا لأيّ مقاربة كميّة تحصر فصائل المقاومة الفلسطينيّة ضمن جملة من الأرقام والنسب، سواء على مستوى كمّ التسليح والقدرات البشريّة (عددًا وتدريبًا)، يمكن الجزم دون أيّ حاجة التأكيد أو حتّى النقاش أو التدليل، أنّ الطاقة العسكريّة لتنظيم «الجهاد الإسلامي» أدنى من الطاقة العسكريّة لمجمل ما هو تحت امرأة «قيادة أركان المقاومة»، بمعنى ما هو متوفّر لدى «غرفة العمليّات المشتركة».

من ذلك يمكن مقاربة العدوان الصهيوني على غزّة تحت تعلّة تدمير «الجهاد الإسلامي» من زاويتين متقابلتين، بل على قدر كبير من التضاد :

القراءة الصهيونيّة : العقل الصهيوني الواعي جدّا بالعجز المتواصل، بل والأخطر المتزايد، عن مقارعة «المقاومة الفلسطينيّة» (بالجملة)، ممّا أدّى إلى تكريس، بل هو تكريس معادلات ردع جديدة، اعتبر من الأولى (سياسيّا) والأجدى (عسكريّا) اللجوء إلى شكل عدواني جديد، أيّ مقاربة الساحة الجهاديّة في فلسطين عبر سياسة «المفرق» بعد أن تأكّد بل ثبت، ليس فقط عدم جدوى سياسة «الجملة»، وأنّ هذه المقاومة مجتمعة قادرة أن تُلحق هزيمة نكراء بهذا الكيان الذي بدأ يضع وجوده على أرض فلسطين موضع الشكّ «الوجودي»، وليس الفكري أو الفلسفي المجرّد.

تعميقًا لهذه القراءة وتوغلا أقصى ما يمكن، حَسِبَ العقل الصهيوني أنّ العدوان على فصيل دون الفصائل الأخرى قادر على بثّ الفرقة وزرع بذور الشكّ، سواء بين فصائل المقاومة ذاتها، أو داخل العمق الشعبي الفلسطيني عامة، وفي غزّة على وجه الخصوص، بأنّ بقيّة الفصائل الفلسطينيّة وعلى الأخصّ «حركة حماس» تتراوح منزلتها، بين «المتخاذل» عن نصرة «أشقاء الدمّ» (أيّ الجهاد الإسلامي) من جهة أو هي «متواطئة» حين سنحت لها الفرصة (وفق الترويج الصهيوني) «الثأر» بمنطق الشماتة، من هذا «الشريك اللدود»، الذي يخالف الحركة، بدءا بالقراءة الأيديولوجيّة لمجمل القضيّة الفلسطينيّة، وصولا إلى رفض الانزلاق (منذ انطلاقته) والسقوط ضمن دوّامة «السلطة الفلسطينيّة» واكراهاتها.

القراءة الفلسطينيّة : منذ «الحسم الأمني» في قطاع غزّة، فهمت قيادات الفصائل الفلسطينيّة في قطاع غزّة أنّ «الجبهة الداخليّة» تمثّل «الزاوية الرخوة» ضمن فلسفة المواجهة مع الكيان الصهيوني، حين ثبت بالدليل المادّي وعبر سلسلة العدوان المتواصل، أنّ جيش العدوان الصهيوني لا يملك في سجلّه إثر نهاية أيّ جولة من جولات المواجهة، سوى ارتفاع عدد الشهداء والجرحى، دون أن ننسى العدد المتزايد من المنازل والأبراج التي يتمّ تدميرها.

رغم قدرة العمق البشري الفلسطيني في غزّة على تحمّل التدمير الذي يمارسه جيش الكيان الصهيوني، بل وإعلان الغالبيّة الغالبة من هذا الشعب عن قدرة ورغبة في تحمّل تبعات هذا العدوان، إلاّ أن هذه التبعات التي تأتي قاسية جدّا، بل شديد القسوة على أي شعب يعيش حياة عادية، فما بالك بشعب يعيش تحت الحصار اليومي والمتواصل منذ ما يزيد عن 15 سنة.

Bَالقبول بمعادلة «الاستفراد» بالجهاد الإسلامي مقابل «تحييد» ما تجاوزها، صدر عن «العقل الفلسطيني» في قطاع غزّة، أي «قيادة الأركان» الماسكة للموقف العسكري في هذه البقعة من الأرض، ممّا يعني أنّ «التحييد» وما ينتج عنه من «اعفاء» غزّة بكاملها من فلسفة التحطيم دون حساب والتدمير على هوى قيادة أركان الجيش الصهيوني، يمكن اعتماده، بل استغلاله لتحقيق «انتصار» عسكري ومعنوي كبير، في أقلّه إثبات عجز الصهاينة عن تحطيم «الجهاد الإسلامي»، بل هم سقطوا وارتدّوا إلى شكل «متداول» من الحلول «الكلاسيكيّة» التي انتهت إليها جميع جولات المواجهات، أي «وقف القتال» والعود إلى نقطة الصفر، مع التأكيد بل هو التأكّد الصهيوني، على أنّ الطرف الفلسطيني في غزّة، استطاع مع الزمن، الترسيخ لمنطق «ردع» جديد، أساسه «الألم مقابل الألم»، علمًا وأنّ طاقة تحمّل الألم في غزّة تأتي عشرات أضعاف ما يمكن الكيان الصهيوني تحمّله.

 

في غزّة كما داخل فلسطين المحتلّة، انطلق العقل العسكري والسياسي في الجهتين في قراءة مجرى الأحداث وتحليل مسارات المعركة، ودراسة التفاصيل والتدقيق في أي جزء مهمَا كان هيّنا، ليثبت ما يلي :

أوّلا : انقلاب السحر على الساحر : أيّ أنّ عنوان «العدوان بالمفرق»، بمعنى الاستفراد بأيّ فصيل بمفرده، ليس فقط عجز عن دقّ اسفين الفرقة، بل (وهنا المصيبة) لم يخرج بالمعادلة (معادلة القراءة الصهيونيّة) من مرتبة «وقف اطلاق النار» دون تدمير الطرف الفلسطيني المقابل، بل رسّخ قناعة جديدة، أساسها أنّ ما يسمّى «جيش الدفاع» عجز عن تصفية الحساب مع «البعض» من «الطاقة القتاليّة» في غزّة، ممّا يعني أنّ ميزان القوى صار أكثر ميلا إلى ما تسميه القيادات الصهيونيّة «المخربين» في قطاع غزّة المحاصر برّا وبحرًا وجوّا، في حين «ينعم» الكيان المؤقت بما يشتهي من الأسلحة، كمّا ونوعيّة.

ثانيا : البعض أو الكثير من العمق الشعبي في غزّة وكذلك على مدى الفضاء العربي وكذلك الإسلامي ومن ورائها عمق انساني غير هيّن، كان يودّ أن تدخل الفصائل الفلسطينيّة مجتمعة (مثل عاداتها) هذه المواجهة، خاصّة، والأمر من الأكيد الذي لا يقبل الجدل، أنّ قدرات الفصائل الجهاديّة في غزّة صارت أفضل وأرقى ممّا كان في المواجهة الفارطة، ممّا يعني القدرة على تحقيق «نصر أفضل من الجولة السابقة».

نقف وقد وقف العقل المدبّر في غزّة أمام خيارين : إمّا القبول والانطلاق في مواجهة على شاكلة المواجهات السابقة، ومن ثمّة تعميق قدرة الردع الفلسطينيّة ومن بالتالي ترسيخ أكبر لعادلة «الألم مقابل الأمل»، أو (وهنا نقف أمام فلسفة جديدة) بمعنى الحفاظ على النسق الإجمالي في بعده الأوسع، مع تغيير في تكتيك المواجهة، بمعنى اظهار خوى الجيش الصهيوني أمام «بعض» المقاومة.

 

بمعنى كرة القدم، غامر فريق غزّة، باللعب منقوصًا من أفضل لاعبيه، دون أن يتمكّن «الفريق المنافس» من استغلال الفرصة وتحقيق فوز ساحق… الحرب تُبنى على المفاهيم، في أساسها، من يكسب حرب المفاهيم يؤمّن الانتصار على أرض المعركة.

هكذا فهم إسكندر المقدوني الحرب، ممّن درّسه الفلسفة، قبل أن ينطلق في أوسع جولة في زمانه…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي