بوتفليقة ـ غديري: قابيل وهابيل، في نسخة جزائريّة (منقحّة)!!!

15 فبراير 2019

رجوعا إلى «سفر تكوين» ثورة نوفمبر المجيدة، وعوْدًا على الدوافع التاريخيّة التي أدّت ليس فقط إلى نشأة «جبهة التحرير الوطني»، بل إلى «الحسم الثوري» الذي قرّره «هؤلاء الفتية» حين اعتبروا أنفسهم فوق طبقة سياسية (فاسدة من وجهة نظرهم) ووضعوا مولودهم في قطيعة عضويّة بل ابستيمولوجيّة مع الوضع الذي التي كانت الجزائر تعيشه حينها، وأساسًا مع الأسباب التي قادت إلى ذاك «الوضع الموبوء» بدءا بما هي سيطرة «مصالي الحاج» وسطوته بمنطق الأبوّة الطاغية والنرجسيّة الغالبة والأنانيّة القاتلة، ممّا ينفى (في نظره) حقّ غيره في إبداء الرأي وتقرير مصير البلاد والعباد.

مقارنة بسيطة، تدلّ بما لا يدع للشكّ أنّ الجزائر اليوم تعيش ذات الوضع الذي كانت تعيشه قبيّل إعلان جبهة التحرير الوطني. رئيس يبحثون له بل يخترعون «الحدّ الضامن» لصناعة «صورة الرئيس» القابلة للتصريف الإعلامي، حين اليقين قائم، بما في ذلك بين أشدّ مؤيديه أنّ صحّة الرجل متدهورة بدرجة تطرح أسئلة أخلاقية وأشدّ من ذاك وطنيّة وفوق ذلك دستوريّة، بخصوص قدرة الرجل على ممارسة، ليس دوره، بل ذاك «الحدّ الضامن» لصورة تحفظ ماء الوجه، ليس فقط للجزائر والجزائريين، بل لمن جعلوا الرجل «ضامن بقائهم» والحافظ لدوام أرجلهم في ركاب الدولة الماسكة لسلطة مال وسلاح، على حدّ السواء، يريدون الاستئثار بها دون غيرهم، وإلى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

هي المعركة ذاتها مع فارق السنوات والظروف السياسيّة، حين يمكن الجزم أنّ الأحزاب جميعها (لا إستثناء ولا استدراك) راهنًا عاجزة، بل هي فاقدة لتلك القدرة [المفترضة] على تحريك الشارع والذهاب به (وفق البرامج السياسية والمناهج الثقافية والخيارات الفكرية والاختلافات الأيديولوجيّة) نحو التغييرات السلمية وفق واقع البلاد «الديمقراطي» (المفترض)، خارج منطق الزبونيّة والولاء القبلي والانتماء الجهوي أو هو (وهنا الخطورة) توظيف لمقدرات الدولة على مرّ الأيّام والأشهر والسنوات، وليس فقط أثناء الحملات الانتخابيّة ويوم ممارسة الإقتراع.

رجوعًا للتاريخ وقراءة له، نجد أنّ الصراع الدموي والفصل الحاسم، تمّ بين «أبناء العائلة» السياسيّة الواحدة، أيّ ممّن أقسموا على ذات المشروع وحملوا الحلم ذاته، بالحريّة للبلاد والاستقلال للوطن والرخاء لهذا الشعب الذي أعطى منذ انتصاب الاستعمار الفرنسي، بل بذل وضحّى بثلث سكّانه وفق أقلّ التقديرات.

indexالمعركة الدائرة (انتخابيّا) بين كلّ من عبد العزيز بوتفليقة وعلي غديري (وما يرمز كلّ منهما ومن يقف وراء هذا الصفّ وذاك)، هي تصفية حساب بين شقّ أوّل وشقّ ثان، من «ذات الأسرة». الأوّل من «جيل الثورة» وأحد أعمدة الدولة زمن الراحل الهواري بومدين، والعائد (بعد فترة تيه في «الصحراء») ليمارس رئاسة استطاعت أن تجعل منه «رئيسًا» بالتمام والكمال وليس «ثلاثة أرباع رئيس» كما قال عندما قدم إلى سدّة الرئاسة.

 

الثاني «صناعة عسكريّة» بأتمّ معنى الكلمة وابن من أبناء «مؤسّسة الجيش»، ليس فقط الماسكة للسلاح والحافظة من خلاله لمناعة البلاد واستقلالها ووحدة ترابها، بل (وهنا الأهمّ بل المحدّدة) الممارسة للسياسة (ولا تزال) ضمن الصفوف الأولى بل الفاعلة وشديدة التأثير، إن لم نقل أحد أهمّ المحدّدات. يكفي لذلك (فقط) الاطلاع على فحوى خطاب رئيس أركان الجيش الشعبي الوطني الجزائر ونائب وزير الدفاع منذ سبتمبر 2013، الفريق أحمد قايد صالح في أكثر من مناسبة، وخاصّة افتتاحيات «الجيش» لسان حال هذه المؤسّسة.

هي المرّة الأولى منذ اندلاع الثورة ليلة فاتح نوفمبر، التي تكون فيها «السلطة برأسين». المرّات الفارطة، خاصّة أثناء الثورة التحرريّة، حين كان الحسم «الثوري» (الدموي غالبًا) سريعًا وحاسمًا وكذلك مع حلول «دولة الاستقلال». تقف المقارنة عند هذا الحدّ مع فوارق أهمّها:

أوّلا: من الأكيد أنّ عبد العزيز بوتفليقة يرأس البلاد وماسك (هو ومن معه) لمقاليد السلطة «الظاهرة للعيان»، لكنّ الجنرال (السابق) علي غديري، ليس ذلك «اليتيم» (المقطوع من شجرة على حدّ قول أهل مصر)، بل يمكن الجزم دون الحاجة إلى أدلّة أنّ الرجل «مسنود» وبشدّة من قطاع غير هيّن من «الدولة العميقة» خاصّة مؤسّسة الجيش، التي سارع قايد صالح إلى تأديب (سجن) من سارع من ضباطها إلى ابداء تعاطف مع «رفيق السلاح» (السابق)، و«الرفيق» (الدائم) والحامل لأحلام جزء غير هيّن منهم.

ثانيا: الفارق الأكبر والقطيعة الابستيمولوجيّة مع فترة الثورة، وحتّى مع ممارسات «دولة الاستقلال»، أنّ عبد العزيز بوتفليقة أقدم منذ توليه الرئاسة على «تنظيف» المؤسّسة العسكريّة دون «تصفية» (دمويّة) أو على (الأقل) «تحييد» هذه العناصر بالكامل، ممّا خلق «طبقة» من «أهل السلطة» موزعين بين وعاء الدولة وخارجها، أقصتهم «لعبة الحكم»…

ثالثًا: لم يكن أحد يتخيّل [منذ سنوات فقط] أنّ تصفية الحسابات بين «أبناء السلطة» ستتمّ وفق «الممنطق الانتخابي»، أيّ بناء على الصندوق وما يرمز له من ديمقراطيّة (شكليّة) وشفافيّة (معلنة)، حين كان «هؤلاء الأبناء» يصفّون حساباتهم وراء الستار وفي الغرف الخلفيّة وبعيدًا عن الأضواء، وإن تحوّل الصراع علنًا (أحيانا)، سواء «الثورة التصحيحيّة» التي أقدم عليها الرئيس الراحل الهواري بومدين، أو إيقاف المسار الانتخاب باستقالة الشاذلي بن جديد، أو اغتيال الرئيس محمّد بوضياف على الملأ وأمام الكاميرات…

 

على مستوى البنية الفلسفيّة للمشهد وآليات الصراع القائم/القادم، يمكن الجزم أنّ الانتقال من منطق «الحسم السريع وراء الستار» إلى «اللعب الانتخابي المفتوح» أشبه بالانتقال من «فيزياء نيوتن» إلى «نسبيّة أينشتاين»، وبالتالي لا يمكن الجزم بمنتهى هذه «اللعبة»، بعيدًا عن قراءة «نتائج الصندوق» المباشرة….

 

لم يحصل أن ترجّل رئيس دولة مثل الجزائر عن «سدّة الحكم» بفعل الصندوق ووفق «المنطق الانتخابات»، خاصّة في وضع بوتفليقة الحالي، وفق حالة التوتّر القائمة، ومن ثمّة يمكن الجزم أنّ «اللعبة» ستكون «قبل الصندوق»، أي قرارات «المجلس الدستوري» وما هي الأجواء السياسية و«درجة حرارة» الحملة الانتخابيّة. كما ستكون «بعد الصندوق»، أيّ الجزم بأنّ علي غديري (ومن معه ومن وراءه) لن يتركوا نتائج (هذا) «الصندوق» تذهب هباء مثل الزبد، وبالتالي، نحن نقف أمام مولد «كائن سياسي» لا يمكن التنبؤ بشكله أو بمقدار قوته أو حجمه ضمن المشهد السياسي الجزائري… خاصّة العلاقة بمن هم «الأخوة الأعداء»، حين لا يمكن أن تخيّل «الحسم الثوري» في عصر مواقع التواصل الاجتماعي…

_________________________________________________________________________

La mort de la raison engendre des chimères [Goya]

Le vieux monde se meurt, le nouveau monde tarde à apparaître et dans ce clair-obscur surgissent les monstres [Antonio Gramsci]


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي