بين «دفترخانة» و«الباتينده» ضاع الشعب التونسي…

30 ديسمبر 2015

أحد أسباب التوتّر (الحقيقيّة) في البلاد أنّنا نعيش تناقضًا مرضيا خطيرًا (بالمعنى الطبيّ) بين العقلية (الحقيقيّة) لمجمل الشعب ومن ثمة لهذه «الطبقة الحاكمة»، التي تأتي جميعها متشبثة بما هي «مفردات» الخطاب الديمقراطي، سواء على مستوى القول المباشر أو التظاهر بممارسة الحكم وتسيير دواليب الدولة…

لا يزال العقل الماسك لهذا الشعب متراوحًا بين «بداوة» (معلنة) وكذلك «اقطاع» غير خاف عن أحد، حين لا تزال «المقوّمات الحقيقيّة» للفكر «الديمقراطي» (المطلوب على مستوى الخطاب) بعيدةً، بل يتعمّق الفارق ويتوسّع البون، بفعل الزمن. هي حركة «ردّة» (حقيقيّة)، بل أخطر منها أنّنا كلمّا أوغلنا في هذا «الانتقال الديمقراطي» إلاّ وتعمّق الفكر الاقطاعي وتوسّع مجاله.

بل لا يخجل كثيرون ممّن يدّعون الديمقراطيّة والحداثة عندما يرجعون نجاح هذه «الديمقراطيّة» إلى فعل اقطاعي، ويلحون في الأمر ويفاخرون به. وجب القول (من باب الأمانة التاريخيّة) أنّ هذه العقليّة (عقلية المناداة بالحداثة من منطلق الوصاية الاقطاعيّة) بدأت بُعيد الاستقلال، عندما جاء بورقيبة «وصيّا» على «حطام من البشر» poussière d’individus، وبنى كامل منظومته «الحداثية/التحديثيّة» على هذه النظرة الدونيّة إلى من سواه.

من باب المساواة فعلا، تمسّ هذه الريح قوس قزح السياسة بكامله، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حين صرّح علي العريض في معرض دفاعه عن «جمهوره» أنّ هذا «الجمهور مسجلّ في دفترخانة»، وصرّح ناجي جلّول أنّ «باتيندة» النداء مسجلة بإسم الباجي قائد السبسي….

من الأكيد، ودون الدخول في نوايا (سي) علي العريض أو ما يعنيه (بابا) ناجي جلّول، إلاّ أنّهما (ومهما كانت النوايا) فضّلا «النزول» (قولا وممارسة) بالخطاب السياسي إلى درك (أو هو مستنقع) «الشعبويّة» وليس (وهنا المصيبة) «الارتقاء» به إلى مرتبة الخطاب الديمقراطي فعلا.

يمكن الجزم أنّنا أمام حالة «ضبابيّة» سواء عند «أمين عام النهضة» أو «رجل النداء» وكذلك «وزير التربية»، حين لا يمكن لأيّ كان أن يشكّك في المرتبة العلميّة والتجربة الميدانيّة لكلّ منهما، كلّ ما هناك:

أوّلا: قصر نظر ورغبة في «تلبّس المنطق الشعبي»، وهي عادة اتّبعها بورقيبة وعمّقها السبسي وصارت قاعدة بل من «لزوميّات الخطاب» (السياسي) في البلاد، دون القدرة أو هي الرغبة في الارتقاء بهذا الخطاب.

ثانيا: عجز عن تلبّس الخطاب السياسي الديمقراطي (حقّا) ومن ثمّة العمل من خلاله والسعي لتأصيله

الخطر (أو المصيبة) ليس على مستوى الخطاب «الشعبوي» (في ذاته) فقط، بل في ما يمثله من حالة انفصام على مستوى وعي المواطن بالصورة السياسيّة وبالمثال المطلوب (على مستوى الخطاب اللفظي)، بل يمكن الجزم أنّ من أسباب «عدم الاحساس بالأمن والأمان» زمن بن علي هو هذا «التناقض» (المرضي) بين «خطاب» (لفظي) راق ومتميّز على مستوى الدلالات الديمقراطيّة، في مقابل ممارسة تأتي النقيض بأتمّ معنى الكلمة لهذا الخطاب «المزهر»…

 

Ali laraydh - Neji Jelloul

علي العريض ـ ناجي جلول

من أسباب استقرار «دول الخليج» (مثلا) أنّها دول لا تتمثّل (على مستوى اللفظي) خطابًا «ديمقراطيّا» بل هي «اقطاعيّة» (حدّ النخاع)، بل تؤسّس لذلك على مستوى المصطلحات والممارسة وحتّى الصورة المثاليّة التي تعيش من خلالها أو تريد صنعها عن ذاتها. مثال ذلك أنّها تتباهى عند «مبايعة» «العاهل/الأمير/السلطان»، ويتمّ الحديث عن «العائلة المالكة» في صورة من تملك «حقّا غير قابل للنقض» (بأيّ منطق كان)، وبالتالي (مهما كان الموقف من هذه الأنظمة أو من ممارساتها) إلاّ أنّها تأتي أكثر تجانسًا وأكثر رسوخًا من جمهوريات نادت بالمواطنة وحادت (جميعها) أو هي رغبت وعملت على توريث الابن (خاصّة)…

 

لا يعي (سي) علي العريض «أمين عام النهضة» أنّ حديثه عن «أنصار» مسجلين في دفترخانة يأتي نفيا قاطعًا لبعد المواطنة فيهم وحتّى البعد الانساني، ممّا يعني (على مستوى الذهني) أنّ هؤلاء الأنصار، هم مثل «الجماد» أو بالأحرى مثل العقّارات التي تباع وتُشترى وترهن، وقابلة للقسمة وحتّى تغيير الصبغة.

(بابا) ناجي جلّولا لا يقلّ «ذكاء» عن (سي) علي العريض، عندما يعتبر أنّ «باتيندة» النداء ملك (سي) الباجي، هو بذلك اعتبر المناصرين جزءا من «الأصل التجاري» الذي هو قابل للبيع والشراء والرهن وحتّى القسمة، في عنف ربّما.

الفارق الوحيد بين الرجلين أنّ (سي) علي العريض يميل إلى ميدان الفلاحة، في حين يأتي (بابا) ناجي جلّول أقرب إلى «بزنس» التجارة. أمّا عن العمق، فهو ذاته…

أخطر من الوضع القائم، أنّ الطبقة السياسيّة، تأتي جميعها (مهما كان الخطاب) تتحدّث اللغة ذاتها، بل هو هناك منزع متصاعد لممارسة الشعبويّة أو النزول أسفلها دون حدّ أو رقيب أو حسيب، سواء من باب السعي للانتصار في المعارك السياسيّة التي لا تنتهي، أو من باب البحث عن توسيع دائرة الأنصار والمعجبين ومن ثمّة المقترعين أثناء المحطات الانتخابيّة القادمة.

من المضحكات المبكيات، أنّ البيانات الصادرة عن عديد التشكيلات السياسيّة وحتّى الهيئات الرسميّة، تنطلق من مناداة «أخي المواطن، أختي المواطنة»، حين تؤكّد أبسط أبجديات الديمقراطيّة أن عامل «الأخوّة» لا علاقة، بل لا قيمة له ضمن المعطى الديمقراطي، لندرك أنّ هذه البلاد (كما مثيلاتها) لا تعاني من التخلّف بل من التلوّث (الديمقراطي) والتصّحر (الحداثي)..

 


207 تعليقات

  1. رغبة الاصلاح الحقيقي والتاسيس لذلك يتطلب كما قلت في تعليق اخر الرجولية والوطنية بالمفهوم والفعل الاصيل بدون لغة خشبية وايادي مرتعشة فان لم تكونان متاصلان فلافائدة من اقوى الاستراتيجيات ومشاريع الاصلاح الذي سيكون عقيما حتما لان فاقد الشئ لا يعطيه. محبة استاذ

  2. محمد البهلول

    لا فضّ فوك

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي