تقرير بشرى وبشارة زيتون: وقود حرب الفناء القادمة

29 يونيو 2018

منذ اللحظة الأولى لإعلان «دولة 55»، ومرور الحبيب بورقيبة من طالب السلطة إلى أداة تنفيذها، تأسّس منطق ضبابي، فيه مزيج من «سلطة الأبّ» (بمنطق الوصاية والاستصغار) و«حداثة» (مسقطة)، أيّ جميلة وبهيّة في ذاتها أو هو تناقضها مع ما ساد ويسود حينها من «عقل» قروسطي واقطاعي، مثّل في تناقضه مع «حداثة الغرب» السبب الأوّل والأساسي لحال «التخلّف» الذي عمل بورقيبة (الشخص والمشروع) على القطع معه أو هو اجتثاثه، سواء منها المرجعيات الاجتماعيّة أو السند الديني.

لم يكن العمق الشعبي منذ تلك اللحظة (أيّ إعلان دولة 55) معنيا (بصفة فاعلة ومباشرة) بإتّخاذ القرار أو بما هي آليات التطبيق أو حتّى قراءة النتائج ونقد المخرجات، لأنّ هذا «العمق الشعبي» عاجز بحكم الجهل والتخلّف عن الفهم والإدراك، وثانيا لا تقبل «النخبة الحاكمة» (سواء السياسيّة أو الفكريّة والثقافيّة السائرة في ركابها) مبدأ المناقشة، سواء مناقشة شرعية وجود وقيام هذه النخبة ذاتها أو شرعية القرارات أو حتّى مبدأ مناقشة نتائج الاسقاط العلوي لقرارات لا يرى العمق الشعبي أنّه معني بها (بمفهوم التأصيل).

بشرى بلحاج حميدة لا تستمدّ شرعيتها من عمق شعبي (بالمعنى الانتخابي) ولا من مسيرة «ثوريّة» وهي التي قالت ما قالت ليلة 13 جانفي 2011، تبييضا للرئيس الهارب زين العابدين بن علي، ممّا يعني أنّ خلافها معه، أيّ خلاف «الكتلة الحداثيّة» مع «دولة بن علي»، لم يكن وجوديّا (بالمفهوم الاستراتيجي للكلمة)، بل مجرّد اختلاف «تكتيكي» حول الأولويات وما هي أسبقيّة «التحديث» (القصري) على «الدمقرطة»  (المفترضة)، إضافة إلى الخلاف/الاختلاف بخصوص مبدأ الشراكة في الحكم، حين رأى بن علي (ويرى الباجي) في بشرى ومثيلاتها (النساء الديمقراطيات مثلا) مجرّد «أدوات» أو هنّ عاملات بالقطعة، ينلن الثواب عند النجاح والعقاب عند الفشل.

لذلك لا معنى للتقرير الذي قدّمته اللجنة التي تشرف عليها بشرى بلحاج حميدة خارج منطق «التفويض الرئاسي»، وبالتالي هي (بشرى كما اللجنة ومخرجاتها) جزء من ألاعيب الباجي قائد السبسي، الراغب في شق الصفّ المخالف له أو (على الأقلّ) المناوئ لطموحاته، إن لم نقل المزعج لحلم التوريث. بمعنى جعل «اليسار» (بالمعنى الايديولوجي والوظيفي) يؤدّي دوره التاريخي (كما كان محمّد الشرفي)، أيّ رأس الحربة التي تملكها «الدولة» (بمفهوم العمق والمصالح) بغية طعن «العدوّ التاريخي» (أيّ الكتلة الاسلاميّة المفهوم السياسي للكلمة).

LZBBHهو توزيع أدوار وظيفي/استراتيجي بحكم الماضي التاريخي وبحكم المشروع السياسي وخاصّة في علاقة بموازين القوى القائمة وخاصّة القادمة. الباجي عاجز ورافض أن يلعب الدور «الوسخ» (من منظور الحكم الشعبي المتديّن)، في حين أنّ بشرى ومن معها في عجز عن التحوّل بسبب «صغر الحجم» إلى «شريك» فعلي وفاعل في ممارسة السلطة.

هو السيناريو ذاته الذي يتمّ تطبيقه منذ عهد بن علي، مع إضافة البعد «الدرامي» الذي تضفيه مواقع التواصل الاجتماعي، حين كانت اللعبة (زمن محمّد الشرفيي مثلا) لعبة «نخب» حصرا وكفاية (سواء السياسيّة أو الاعلاميّة)، ليصير (راهنًا) من هبّ ودبّ على الفايسبوك أو التويتر ليس فاعلا ومؤثّرا، بل «صاحب حقّ» (من نظره) في التأثير ضمن المعادلة، بدء بمباركة/رفض تقرير لجنة بشرى وصولا إلى مباركة/الاستهزاء من جملة تصرّفات الممرن نبيل معلول «ذات المرجعيّة» الدينيّة الواضحة والجليّة، والتي تعتبرها قطاعات تناصر بشرى عمومًا وتقف في صفّها «مستفزّة»…

خطورة المشهد منذ نشأة دولة 55، يكمن في تحوّل «الآداة التكتيكيّة» إلى «فاعل استراتيجي»، سواء جاء الأمر بفعل فاعل أو هي «جدليّة التاريخ» (في بعدها المادي المباشر)، مع تأثيرات جدّ خطيرة قامت ضمن المسار التاريخي للبلاد، وكذلك انفتاح الأفق على صراعات قائمة وقادمة تأتي قاتمة بالضرورة، حين لا تزال موازين القوى الفاعلة والمؤثرة في القرار السياسي/الاجتماعي/الديني أبعد ما تكون عن «الديمقراطيّة» (المعلنة صوريّا)، وحين يحسّ عمق شعبي غير هيّن أنّه مطعون في هويته الدينيّة ومعتقداته وأساسا في وجوده، بل الأخطر أن يشعر هذا «العمق الشعبي» أنّ من تصدّر للدفاع عن «الهويّة الدينيّة» للشعب منذ أواسط السبعينات (أيّ حركة النهضة، تاريخيّا) لم تعد تتعاطى هذه المهمّة ولم تعد تؤدّي هذا الدور، ومن ثمّة يتمّ حشرها مع «بشرى وأخواتها»، بل هناك من يرى من منطق القطع واليقين، أنّ «رسالة الدعم والمساندة» التي أرسلها أو بالأحرى نشرها القيادي النهضاوي، والمستشار الأوّل والأرفع لراشد الغنوشي، لطفي زيتون ودافع من خلالها عن بشرى، تجعله (من باب «مدخل الكفر كفر») ضمن «الفئة الضالة» وكذلك قيادة النهضة التي صمتت وسكتت أمام هذا «الموقف»…

هي «اللعبة» ذاتها التي لعبها «المجاهد الأكبر» كما عمد إليها «صانع التغيير»، وبالتالي لا غرابة أن يلجأ إليها الباجي قائد السبسي، حين افتعل عن قصد وعمد «الحرب» بين شقين في المجتمع وقودها «الشأن الديني»، ليكون الطرفان أضعف وفي حاجة إليه، وكذلك ليجعل من «التقرير» في أقصى درجاته مجرّد أداة حرب ووسيلة للصراع، تستذكر وتستدعي الاستقطاب الذي أدّى إلى انتخاب الباجي حين لا يزال اليسار عاجز أو هو أبتر وغير قادر على الوصول إلى «عرش قرطاج»، وكذلك لا يزال الحلم ذاته بالنسبة للاسلاميين (لأسباب اقليميّة ودوليّة) أقرب إلى أضغاط أحلام اليقظة…

 

لا تأتي الخطورة من «اللعبة» ذاتها، أو من «اللاعبين» ذاتهم، بل من المتغيرات الداخليّة والاقليمية، وكذلك التكنولوجيّة، وأساسًا من انعدام «قواعد اللعبة»، أيّ أنّ «القوانين السياسيّة» التي كانت سائدة قبل 14 جانفي لم تعد صالحها منذ ذلك التاريخي، ليصير العراك دون قوانين، ممّا يجعل العنف القادم أبعد ممّا كان وأخطر بكثير جدّا ممّا كان.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي