تونس : السيناريو الليبي مرفوض، والسيناريو المصري مستحيل.

26 مايو 2020

الأيادي البريطانية التي تحرّكت في تونس، خاصّة إبّان الفترة الفاصلة بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، وعلى الأخص هذا اليوم (أيّ 14 جانفي) كانت على وعي وإدراك ودراية وحتّى اليقين الجازم، أنّ الأجهزة المسلّحة في تونس، كانت في مجملها مستعدّة وقادرة، تحت إمرة الجنرال/الرئيس على الذهاب بالبلاد ضمن «السيناريو الليبي»، أو (على الأقلّ) إقدام النظام على حملات قمع واسعة جدّا.

تمّ «ترحيل» بن علي ضمن خطّة مقصودة ومعدّة (في تفاصيلها العريضة)، ولم تأت عمليّة «تغييب» الرجل بفعل «الصدفة» أو هو حادث جاء ضدّ «مجرى اللعب».

لم تكن الجهات التي قرّرت ترحيل بن علي، رؤوفة لا بالعباد ولا بالبلاد، بل كانت ولا تزال تعتبر تونس «مخبرًا» متقدّما، يُمكن ضبط الأمر فيه ومسك المتغيّرات، وتحجيم قدر «المجهول» في المعادلة.

الولايات المتحدة الأمريكيّة، كانت استعملت تونس مخبرًا في مناسبتين : تجربة التعاضد، الذي أقدم عليها الوزير أحمد بن صالح، الصديق الحميم وحتّى الابن المدللّ للاتحاد العالمي للنقابة «السيزل» (ذات التوجه الليبرالي المعادي للمعسكر الشرقي)، الذي تسيطر عليه نقابات الولايات المتحدة، وكذلك تجربة «التنظيم العائلي» الذي شكّلت «سابقة» في الفضاء العربي/الإسلامي.

téléchargementكان المطلوب في تونس أن يتمّ تحييد «رأس السلطة» وحلول «رأس جديد» أنظف من الأوّل لا غير. لم يكن مطلوبا، أو بالأحرى مسموحًا بدخول البلاد دوّامة القمع أو وصول الأمر إلى «ثورة مسلّحة» كما كان الأمر في ليبيا.

أقرّت أوروبا وعلى رأسها الدول المطلّة على البحر الأبيض المتوسط أنّ غياب جزئي ومؤقت للسلطة في تونس أيّام 16، 17 و18 جانفي 2011، مكّن بين 30 ألف إلى 45 ألف مهاجر من الابحار جهرًا وعلانيّة، رغم أنّ الفصل شتاء وحالة البحر لا تشجّع (افتراضًا) على الابحار.

تقرير فرنسي يرى أنّ غياب سلطة مركزيّة ذات نفوذ وقدرة في تونس، سيحوّل البلاد، إلى «صومال جديدة»، ستغري بالتأكيد مئات الالاف من المهاجرين السرّيين من كامل القارّة، والأخطر أن يستقرّ جزء منهم على عين المكان، رغبة في تأمين طريق الهجرة وما للأمر من تبعات على الوضع الديمغرافي في البلاد، ومن ورائه الاجتماعي وخاصّة السياسي.

من جهة أخرى، يتطلّب السيناريو المصري، حالة التسخين الذي يقوم بها البعض في تونس حاليا، وكذلك وصول «التوتّر الاجتماعي» ذروته، وثانيا (والأخطر بكثير) وجود «سلك مسلّح» يتّخذ القرار ويقدم على تنفيذ «انقاذ/انقلاب»…

الناظر إلى الواقع التونسي في عمق يكتشف أنّ عددًا وعدّة وعقيدة، الجيش التونسي رافض كليّا وبصفة نهايّة مجرّد التفكير في «الانقاذ/الانقلاب»، ومن ثمّة، مهما بلغت درجة «التسخين الاجتماعي» وأمام عدم قدرة «الجناح المدني» للانقلاب على اتمام المهمّة بمفرده، دون «جناح عسكري»، غير متوفّر في تونس، سواء لأسباب موضوعيّة أو تاريخيّة، يبقى «الانقلاب» مجرّد وسيلة ابتزاز للنهضة عامّة وللغنوشي على وجه الخصوص الذي أثبت بالتجربة والبرهان، أنّه يعطي ويتنازل تحت الضغط، عشرات المرّات أو أكثر من يعطيه أو يتنازل عنه دون ضغط.

كلّ ما في الأمر أنّ جميع ما نرى من «غبار» في الأفق ومن «قرقعة» سلاح في الآذان، لا هدف له سوى :

أوّلا : تقزيم حركة النهضة إلى أدنى نسبة ممكنة، مقابل صعود «قوى أخرى» قادرة على احداث التوازن وتحقيق نوع من «الاستقرار» في معادلة الحكم.

ثانيا : إعادة ترتيب صفوف «القوى المعادية للنهضة»، بالاستغناء عن العناصر «عديمة النفع» وضخّ دماء جديدة في صلبها.

تبيّن للجهات الغربيّة المشرفة أو بالأحرى الماسكة للملفّ التونسي، استحالة تجميع القوى المعادية للنهضة ضمن «وعاء واحد» أو (على الأقلّ) تأمين حدّ أدنى من «التنسيق» على الأقلّ إبان الانتخابات، بل تفادي انقسامها وتشظيها.

لذلك وأمام «انبطاح النهضة» انبطاحًا كاملا أمام الغرب، بل استعدادها لاختصار المسافات واقرارها العلني ودون حدود بالمصالح الغربيّة، لم يبق من «الانقلاب» سوى شعارات فضفاضة وسحاب لا يحمل مطرًا، بل أكثر من ذلك، مجرّد «مهرجان مسرحي» مهمته «تبييض الأموال» التي تصرفها جهات اقليميّة، على أطراف داخليّة : هم يتظاهرون بممارسة التظاهر «ضدّ النهضة» وهي تدفع متظاهرة بالتصديق.

يبقى في المعادلة عامل مهمّ وخطير ومحدّد للمعادلة وخصوصا المسار الذي ستتخذه : الحالة المرضيّة لحركة النهضة، وعدم قدرتها (جماعة وقيادات وأفراد) على التخلّص من «هاجس الضحيّة» بل (الأخطر من ذلك) أمام ما يتعرّض له راشد الغنوشي (الرجل والخطّ السياسي) داخل الحركة من نقد شديد علني ومن انتقاد أشدّ من قبل قيادات الصفّ الأوّل، يأتي «الانقلاب» ليعود بهذا «الوعي» (الجمعي) إلى ما قبل 14 جانفي أو بالأحرى إلى فترة التسعينات وما لا تزال تمثّل لعشرات الآلاف من أبناء الحركة من «آلام» شديدة، هم عاجزون سيكولوجيا عن تجاوزها.

لذلك وجدت «وثائق قاعدة الوطية» في ليبيا عن تفاصيل «مؤامرة» تُحاك ضدّ النهضة خاصّة والبلاد عامّة، هوى شديدًا في نفوس عمق النهضة وحتّى العديد من قيادتها، التي تعتبر أنّها «ضحيّة» (من جديد)، وأنّ «الانقلابيون» أعدّوا العدّة وهم على استعداد لإعلان «ساعة الصفر».

 

دون السقوط في «نظريّة المؤامرة» يمكن الجزم بوجود «مصلحة مشتركة» (موضوعيّة، دون الحاجة إلى اتّفاق) بين «الجناح المدني» (المحلّي) لما هو «الانقلاب»، من جهة مقابل «خطّ راشد الغنوشي» داخل الحركة : الأوّل يبيّض ما ينال من تمويلات عربيّة، والثاني يتخلّص إلى حين أو هو يقلّص من حجم «جبهة الرفض» داخل الحركة.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي