تونس : الصراعات العموديّة والتسويات الأفقيّة….

16 يناير 2023

المظاهرة التي شهدها قلب تونس العاصمة يوم 14 جانفي الفارط، أرادها أصحابها جملة من الرسائل الى عديد الجهات، أولها وعلى رأسها، الأطراف الداخليّة والاقليميّة كما الدوليّة، أنّ «حجم المظاهرة»، يتناسب مع «حجم الجهة» التي تولت التنظيم، تحت شعار «إسقاط الانقلاب»…

عندما نمعن بين ثنايا هذا المشهد الماثل أمامنا نجد أنّ «الصورة» في بُعدها السياسي، ليست بالصفاء أو بالبهاء الذي يتمّ التسويق له، على اعتبار أنّ فئة غير هيّنة من «جبهة الخلاص» تريد وتسعى وتعمل دون هوادة، على «الخلاص» من قيس سعيّد و«التخلّص» من كامل المنظومة التي أسّسها منذ تفعيل الفصل ثمانين من دستور 2014، لكنّها لا ترى الحلّ في «عودة ما» للنهضة إلى «السلطة»، حين وقف الكثير ممن يعادون قيس سعيّد راهنا إلى جانبه عند إطلاق مساره «التصحيحي» (حينها) وتحوّلوا إلى ألدّ الأعداء لهذا المسار «الانقلابي» (راهنًا).

ممّا يعني أنّ «الخلاص» الجامع سيتحوّل إلى جبهة صراع بين «حلفاء اليوم»، سواء غادر قيس سعيّد المشهد السياسي، أو (وهذا لا يقلّ أهميّة) عند انطلاق أيّ شكل من الحوار أو المفاوضات التي تبغي حلاّ للوضع الشائك والمعقّد الذي تعيشه البلاد حاليا، حين ستبحث كلّ طبقة من «جبهة الخلاص» عن «خلاصها» الذاتي، وإن كان على حساب الأطراف الأخرى داخل هذه الجبهة.

DQهذه الأرض الرخوة، الأقرب إلى الرمال المتحرّكة، جعلت المشهد السياسي متقلّبا أحيانا من النقيض إلى النقيض، منذ 14 جانفي 2014، ممّا يعني أنّ طبيعة التفاعلات في السرّ أبعد ما تكون عمّا يبدو في العلن، وكذلك أنّ الارتباطات القائمة ليست بما يدّعي المدّعون من «قداسة» حين يقاتل طيفٌ قيس سعيّد لمجرّد أنّه خيّب آمالهم حين لم يجعل منهم «عماد مُلكه»، وأخرون لأنّهم توهموا لحظة واحدة، وحلموا أنّه سيذهب في «السيناريو المصري» إلى أبعد الحدود الممكنة، ليشفي غليلهم، دون أن يحرّكوا أصبعًا واحدًا، ولِمَ لا يستنجد بهم إثر ذلك، رغبة (وفق ذات الأمنيات) في تبييض مساره الحقوقي.

سعيّد كما الغنّوشي على يقين بعدم قدرة أيّ منهما على حسم الصراع القائم بينهما بالعنف وبالسرعة المطلوبة التي تجعل المحيط الاقليمي كما الدولي يسلّم بما هو «الأمر الواقع»، بل هو الخوف، إن لم نقل الرعب من أن تتحوّل أيّ «شرارة» مهما كان مصدرها، إلى لهيب على قدر كبير من الخطورة، قادر على خلط الأوراق، بل وقلب الموازين، سواء تعلّق الأمر بالداخل أو المحيط الاقليمي أو البعد الدولي.

إقرار راشد الغنّوشي ومن بعده عجمي الوريمي بعدم التمسّك بالعود إلى «نقطة الصفر» أيّ تراجع قيس سعيّد عن كامل المسار الذي أطلقه وانطلق فيه، وما أعلنه القيادي في الاتّحاد العام التونسي للشغل حفيّظ حفيّظ من وجوب أن ينطلق الحوار (الذي تؤسّس له هذه المنظمة النقّابيّة) من اعتراف جميع الأطراف المشاركة بشرعيّة «25 جويلية 2021»، جميعها بين ركائز يريدها هذا الطرف، وخطوط حمراء يؤسّس لها أحد الأطراف المقابلة، في انتظار أن تعبّر أطراف أخرى عن «أحاسيسها» في قادم الأيّام.

تعلم النهضة علم اليقين بأنّها تقف في مشهد يمكن تلخيصه في مقولة «قيس سعيّد أمامها، والطابور الخامس بين صفوفها»، ومن ثمّة، لم تعد تملك قدرة «الهجوم» على قيس سعيّد وتمكين هذا «الطابور» من طعنها في الظهر مقتلا، ولا هي قادرة على «الانتظار» إلى ما لا نهاية، حين بدأت تغرق في دوّامة الملاحم «الكلاميّة» حين أسّست من خلالها أجنحتها «الفايسبوكيّة» لذلك المنطق الثوري الطوباوي عن وجوب «الاستشهاد» دون التراجع خطوة، والحال أنّ الغنوشي هو من دشّن سوق التنازلات، التي يعلم بالحنكة والذكاء والفطنة، أنّ حظّه فيها لن يكون أفضل ممّا كان زمن «الحوار الوطني»، حين رحلت حكومة علي العريّض دون أنّ تستكمل أيّ محكمة داخل البلاد وخارجها جميع مراحل التقاضي بشأن جريمة اغتيال بلعيد والبراهمي كلّ مراحل التقاضي، وما قد يكون (كما لا يكون) من أحكام ثابتة في حقّ هذا أو ذاك من المنتسبين لحركة النهضة.

من ذلك تأتي خطورة مظاهرة 14 جانفي الفارط على النهضة : «الطابور الخامس» يريد حمل «معركة الشارع» أبعد ما يكون رغبة في توريط النهضة والتأسيس لمناخ يمنع أو هو يلغي «مناخ التسوية»، لأنّ هذا «الطابور» سينقلب (مثل عادته زمن العشريّة المنصرمة) إلى أحد ألدّ أعداء النهضة بمجرّد «تعديل الأوتار» بين الثلاثي الأقوى على المشهد (النهضة ـ قيس سعيّد ـ الاتّحاد)، لعلمه أو هو اليقين بأنّه سيكون الورقة الاولى التي سيتخلّص منها النهضة على مذبح المفاوضات…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي