تونس وفرنسا : «الذئاب» تنهش «الشرعيّة»…

19 يناير 2023

ما يزعج المنظومة الحاكمة في فرنسا، وهي تقف أمام سيل الجماهير المعارض والرافض لمشروع «إصلاح نظام التقاعد»، لا يكمن في عدد المتظاهرين في ذاته، بل (ما هو أخطر من ذلك) ارتفاع نسبة من يرون صعوبة والبعض يصرّ على استحالة وعدم جدوى أي عمليّة إصلاح من داخل المنظومة ذاتها، أيّ عبر احترام «ناموس الديمقراطيّة» وانتظار الانتخابات القادمة بغية انتخاب غير من هم في السلطة راهنًا.

السؤال حول امكانيّة/استحالة تغيير السياسات الليبراليّة المعتمدة من خلال الانتخابات ولا شيء غير الانتخابات، مطروح منذ نشأة النظام الليبرالي ذاته، لكنّ الخطر يكمن في انتقاله أو بالأحرى تدحرجه من مصاف التساؤلات الاستيمولوجيّة ذات البعد الفلسفي البحت، إلى سؤال يخصّ الفعل وردّ الفعل السياسي، ليتحوّل راهنًا إلى «السؤال المحور» الذي على أساسه تقوم وستتأسّس الخيارات العميقة لعدد متزايد من الفاعلين في المجالين السياسي والاجتماعي كذلك…

Crpcsمهما تكون الدوافع وحتّى المرجعيات ومن ثمّة القناعات التي ستتأسّس على قاعدة هذا النفي، يمكن الجزم أنّ رفض اللجوء إلى الانتخابات لا يمثل مجرّد «موقف»، بل (وهنا الخطورة) نفيا للنظام الليبرالي ذاته، الذي أصبح عاجزًا (حسب مناوئيه) ليس فقط عن تمثيل التطلعات الشعبيّة التي قامت على أساسها الانتخابات، بل (وهنا الأخطر) التأسيس لنظام ديمقراطي في الظاهر، ونقيض ذلك في الباطن، حين سيطر المال السياسي الفاسد على جميع وسائل الإعلام دون استثناء تقريبًا، سواء بوضع اليد مباشرة أو ابتزاز من تبقّى عبر سلاح الإعلانات التجاريّة، لغاية واحدة لا غير، حيث يتولّى هذا المال السيطرة على العقول والتحكّم في وعي الناخبين، الذين يتولون عبر الاقتراع فرز النخبة السياسيّة الماسكة لمقاليد السلطة في البلاد.

على مستوى الرؤية في بعدها الإجمالي، نجد أن ذات التساؤل مطروح في تونس، بل هو اللبّ المحدّد لجدليّة الممارسة السياسيّة في البلاد، حين نرى أنّ «الفتنة الكبرى» تكمن في الصراع الذي يضع أنصار «الشرعيّة»، في مواجهة أنصار «التصحيح الثوري».

بلغة كرة القدم، يمكن الجزم أنّ الفارق الأهمّ يكمن في أنّ «الكرة» في فرنسا لا تزال تحت سيطرة «الفريق الذي فاز بالانتخابات» في حين أنّ «الفريق المنافس» في تونس هو من استحوذ عليها في البلاد.

رجوعا إلى التاريخ، يمكن الجزم أنّ القفزات الكبرى التي حقّقها النظام الليبرالي في الغرب، جاءت جميعها بفعل «أزمات» أحدثت تغييرات جذريّة على المستوى الاقتصادي والسياسي وكذلك الفكري وحتّى الأدبي. من ثمّة لا يكمن الاشكال الراهن في مبدأ مواجهة هذه «الردّة» الشعبيّة في ذاتها، بل في عدم القدرة إلى حدّ الساعة على سحب «الخوارج» من ميدان الرفض ومجال القطيعة، إلى مساحة القبول بالفكر الليبرالي والتسليم له، مقابل مجال للنقد «دون حدود».

سعة البال هذه ليست منّة أو هي نابعة من «فائض أخلاقي»، بل ليقين أملته القناعات الليبراليّة القائمة على تجارب سابقة، بأنّ «الخصوم/الأعداء» هم الأقدر على تبيّن «الثغرات» التي تنخر البناء الليبرالي، وعلى رسم «خارطة» نقاط الضعف الواجب سدّها، ليتمّ غلق الأزمة والعود إلى الاستقرار السياسي، الذي يمثّل شرط الأساس لديمومة المشروع الليبرالي.

في تونس رغم أنّ السؤال الأساسي هو ذاته، أيّ قدرة/عجز المنظومة الليبراليّة على إصلاحها ذاتها دون الحاجة إلى «انقلاب»، إلاّ أنّ «النخب» من الطرفين، أو من يؤدّون اصطلاحا هذا الدور، لا يزالون يعيشون «جاهليّة سياسيّة» أيّ النظر إلى الذات وإلى الخصوم، وفق منطق صراع قبائل الجزيرة العربيّة زمن الجاهليّة، حول الكلأ والماء، وما يؤثّث ذلك من نفي مطلق للآخر وتشريع القضاء عليه وقطع دابره…

منطق الدفاع عمّا بين اليدين والنزوع نحو افتكاك ما لدى الطرف المقابل، يمثّل «الفلسفة» الوحيدة المحدّدة لجدليّة الصراع في تونس. في الآن ذاته، حين نتمعّن في مجرى صراع الأجنحة الفايسبوكيّة، يلاحظ في الآن ذاته، إصرارا على الإشارة إلى «بذاءة» لسان الطرف المقابل، بلسان أكثر بذاءة، ليكون اليقين بأنّ الصراع لا سند سياسي له بالمعنى الأبستمولوجي للكلمة، بل مجرّد «ذئاب» في تراوح بين السيطرة على «الطريدة» والسعي إلى إعادة افتكاكها…

على الضفّة الأخرى، يبدو أنّ «العقل الليبرالي» عاجز (إلى حدّ الساعة» عن جرّ «الخوارج» إلى «التفكير» تحت سقف الشرعيّة، حين بدأ الأصوات تتعالى من داخل الصفّ الليبرالي أنّ الأزمة القائمة راهنًا قد تكون قاصمة…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي