ثورة ليست كالثورات (المدخل)

17 ديسمبر 2015
إلى القرّاء الكرام: هذه القراءة تترّكب من ثلاثيّة وهي قراءة لواقع (ما يسمّى) «الثورة» في تونس، حين وجب أنّ نتخذ (اجرائيّا ومنهجيّا) مسافة «معرفيّة» من اللفظ ليس رفضًا أو نفيًا، بل بحثا عن تأسيس جدر معرفيّ يكون الركيزة لبناء ما يلي من المعرفة وما يتلو من بناء هذا المشروع. بعد انتهاء الثلاثيّة، أكون ممتنّا لمن يريد أن يقدّم قراءة سواء في هذه «الثلاثيّة» أو في مشروع القراءة ذاتها. أهلا وسهلا ومرحبًا…

مقدّمة عامّة:

هذه سلسلة من المقالات، أو هي قراءة لواقع صرنا نعجز عن تجاوزه، وكذلك في حاجة لتفكيك دواليبه، سواء لحاجة أكيدة لمعرفة تفاصيله أو رغبة في الإلمام بدوائره، مع التأكيد أنّ هذه الكتابة تجاوزت، أو تريد الابتعاد عن البعد «السردي/التاريخي» للأحداث الجادة، سواء لكثرة المراجع التي تداولت «البعد الروائي»، أو لغموض بعض النقاط، ممّا يجعل المرء (عن دارية أو عن عجز)، يخلط بين التشخيص الثابت بالشواهد من جهة، والاستنتاج الذي يراه صاحبه بالضرورة منطقيًّا. هي قراءة مصاحبة لأحداث شدّت الجميع بدرجات متفاوتة، تحاول وتسعى لإسقاط الأضواء التحليلية على مجريات الأحداث.

أحداث جعلنا تسارعها في غفلة عن تفاصيل معلومة، لنفهم وندرك كيف ولماذا جدّ ما جدّ وكان ما كان.

 

توطئة:

الثورة التونسية

الثورة التونسية

شكّل «ما جدّ في تونس» (حين الاختلاف قائم سواء داخل البلاد وخارجها حول التوصيف الحقيقي للأحداث)، يوم 17 ديسمبر 2010، نقطة تحوّل يمكن الجزم أنّها من التحولات الكبرى في تاريخ البشريّة جمعاء. نقطة تحوّل، تأكدت أهميتها وترسخت تأثيراتها على مرّ الأيّام، حين نشهد عاقبة كرة الثلج (أو النار) هذه التي ـ رغم الاختلاف العميق في التوصيف والقراءة ـ جاءت كمثل الطوفان حينًا وكذلك حاملة لأحداث مفاجأة، عكست مجرى التاريخ القائم، على الأقل في الدول التي مسّتها هذه «الظاهرة».

من ذلك تأتي الاختلافات عميقة في قراءة الظاهرة (المتحوّلة) وأيضا تحديد تأثيراتها (المتحولة هي الأخرى) على مجمل المشهد العالمي برمته، والفضاء العربي على وجه الخصوص. الاختلاف والصراع لا يكمن فقط (كما كان في السابق) على مستوى الموقف من هذا «العصيان/التمرّد/الثورة» أو تلك، أو «الموقع» ضمن أيّ جدليّة («ثوريّة» أو مناقض لها) على مستوى جلب المصالح ودرء المكاره للأفراد والمجموعات وكلّ التكتلات البشريّة الممكنة، فقط، لنعترف أوّلا أنّنا أمام «شكل جديد»، لم نعهد مثله، سواء اعتبرناها «ثورة» أو «نقيض الثورة».

أيضًا، وهذا لا يقلّ أهميّة، كانت كلّ «التطورات» (ذات العمق الشعبي) التي استطاعت في السابق، «إسقاط الأنظمة»، تتمّ عبر «قيادات»، أعدّت العدّة لذلك، وجهزت من الشبكات وأسّست من أدوات الإسناد والمدد، ما مكّن من تحقيق المطلوب، أو الفشل أحيانًا، دون أن ننسى قاعدة فكريّة أو عقائديّة/إيمانيّة، شكّلت الرابط الجامع لكلّ القوى المشاركة؛ لكن ما جدّ في تونس يوم 17 ديسمبر 2010، مهما تكن الأسباب ومهما كانت الحقيقة، نفى هذه «القاعدة/الحاجة الثوريّة»، بل نقضها وجعل نفسه «البديل الأمثل» و«المثال الأعلى»، حين فتح الباب على مصراعيه، ليس فقط أمام هذا «الشكل الثوري» الجديد، بل جعل «الثورات السابقة» أشبه ما تكون أو تشكّل أنموذجا «غير مثالي» لا يجوز بالتالي الاستلهام منه أو اتخاذه نبراسا، سواء على مستوى القراءة الأخلاقيّة لمفهوم «الثورة»، أو «المثال» الواجب إتباعه (في المستقبل) عند الانجاز.

ثانيا، اتّخذ الجانب «العفوي» قيمة «مقدّسةً»، حوّلت «صاحب الشرارة» إلى «أيقونة» أو هو «القدّيس» الذي تجاوز الأبعاد الدينيّة التقليديّة، إلى قيمة «حياتيّة»، جعلت الجميع (بما فيه «الكونغرس» الأمريكي) ينحني أمام «صاحب العربة» الذي على شاكلة السيّد المسيح عليه السلام، أو الحسين بن علي رضي الله عنه، دفع روحه فداء، بل مثالا لتضحية «فرد» تحوّل من مجرّد «نكرة» بين مجتمع من «النكرات» إلى «عابر للقلوب» و«متجاوز للتاريخ»، كمثل العظماء الذين رسموا أسماءهم على خارطة الزمن.

ثالثا، استطاعت صورة «صاحب العربة» ومن تلاه من «أنبياء المرحلة»، أن يتجاوز صورة «العظماء» التقليديين ممّن صعدوا إلى «السدّة» من خلال الانقلابات والحروب، أو حتّى المجرى التقليدي (في البلدان المستقرّة)، ليكون «التاريخ الجديد» نقيضا «للتاريخ القديم» كمثل ما شكّل سقوط القسطنطينية نقطة فارقة بين «القرون الوسطى» في مقابل «العصر الحديث». بل تمثّل «الأنبياء الجدد» صورة «الشعب بأكمله»، حين صاروا تمثيلا له أو هم في الحقيقة، كمثل التمثال أو الرسم الذي يفتقد إلى ملامح، يستطيع كل «فرد» أن يحتسبه لذاته.

رابعا، وسط معمعة هذه التغيرات التي لا تزال في حال الغليان المتواصل والتحوّل الذي يطغى عليه المجهول، عجز «الوعي الثوري» عن تقديم تحليل «عقلاني/علمي» لهذه الظاهرة، فتراوحت التفسيرات بين إرجاع الأمر إلى «العناية الإلهيّة» (في تقاطع مع «المرجعيات الدينيّة») من جهة، وبين «تقديس الشعب» في ذاته (في تقاطع مع «المرجعيات اليساريّة»).

تلخيصا، يمكن القول، أن ما جدّ في تونس وإثرها، ألغى حاجة الشعب إلى هذه «القيادات»، التي كثيرا ما حادت عن مسار «الثورة».

هل هي «الثورة» الصافية التي تؤسّس لعهد جديد من «الثورات» القادرة على فتح طريق جديد ـ دون وسائط أو محطات ـ بين «الشعوب» ومصائرها «المشرقة»؟؟؟

إنّه انقلاب الصورة فعلا، بل النقيض على التمام، ليس فقط على مستوى «الحراك الاجتماعي والسياسي» ضمن جميع صوره، بل على المستوى المعرفي الأكاديمي، علم السياسة بجميع تفرعاته، الذي وقف يراجع أبجديته ويعاود مفاهيمه: ما كان في الأمس القريب مؤسّسا لأيّ ثورة وشرطا لنجاحها صار اليوم ليس فقط نقيصة، بل عيبًا تزدريه هذه «الثورات الجديدة»، التي تجاوزت الحاجة إلى «الأسس التقليديّة»…

انبرت إلى الوجود مدارس «فكريّة» جديدة، تبنت هذه «الثورات» ليس فقط من باب التأسيس لشرعيتها، بل جعلها بمنأى عن «المشككين» القدامى والجدد، وكلّ من لا تروق له هذه «النتوءات» القادمة دون أن تطرق باب «التاريخ» الذي اعتاد على «فرسان» قادوا «الرعيّة/الرعاع/الشعوب»، ولم يخطر ببالهم أن يفتح مجرّد «قبو» لهؤلاء «النكرات» وإن صارت (من بعد) أسماؤهم لامعة…

هو عصر جديد وموعد آخر، بل هي «قطيعة» (ربّما) بين ما سبق وما لحق. شرارة البوعزيزي أشبه بحمّام «أرخميدس»، الذي صرخ «وجدتها»، وكذلك تفاحة «نيوتن»، أو هي «الشعرة» الذي قطع بها «أديسون» عصر «الظلام» بفانوسه الكهربائي.

من ذلك صارت الأصوات المدافعة عن هذه «الثورات» (الجديدة) تؤسّس ليس فقط «علمًا» جديدًا، بل تجعله من أهمّ «المحطّات» في تاريخ البشرية، التي يجب اعتبارها، مدخلا تاريخيا جديدًا، كمثل التقويمين الهجري أو الميلادي.

هل هي «معجزات» وجب الإيمان بها وتصديقها، حين لم يعد «النبيّ» فردًا أو بشرًا في ذاته، بل صارت «النبوءة»، متراوحة بين «الفرد الرمز» و«الشعب المطلق»؟؟؟

هو الثالوث: الفرد، والشعب والثورة «المقدّسة»…

لا تأتي المسألة ذات بعد «تقديري» ـ كما هو حال علوم الاجتماع في اختلافها ـ بل هي تخصّ «شرعيّة» لا تقبل التقاسم، بين شعوب «الثورات التقليديّة» وشعوب «الثورات الجديدة» أو الطامحة لتحصيلها… صارت «الثورات» محلّ «مفاخرة» أو هي «عار» على من لم يقم بها، حين انقلبت (على الشعوب) «فرض عين» وليس «فرض كفاية»، وصار إتمام هذه الثورات، شرطًا من شروط «بلوغ» ما يسمّى «الديمقراطيّة»، أو «البلوغ» بمعنى التكليف، الذي يرفع (نظريّا) «وصاية» تمارسها «الشعوب المتقدّمة»…

هل يمكن القول/الجزم على ضوء هذه «الثورات»، أنّه لم يعد ممكنا أو مقبولا أو كافيا، تصنيف «الشعوب» العربيّة من خلال كلّ المؤشرات التقليديّة القائمة، بمختلف أشكالها، وهل صار (بالإمكان) الاكتفاء بالقول: «شعوب الربيع العربي» أو «شعوب الثورات العربية»، في مقابل «الشعوب الأخرى». هذا الاستثناء بلغ قيادات «تنظيم القاعدة» حين استثنى أيمن الظواهري (حينها) بلدان «الربيع العربي» ـ من خلال بيان له ـ من عنف «الجهاد»!!!!

 

التالي(الجزء الثاني)


24 تعليقات

  1. تعقيبات: cole haan black friday sale

  2. تعقيبات: ralph lauren outlet store

  3. تعقيبات: discount mk bags

  4. تعقيبات: uggs for cheap

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي