دا الحسين (آيت أحمد): أخر «العمالقة» المحترمين؟؟؟؟

24 ديسمبر 2015

تعيش الجزائر أو هي تسبح منذ إعلان وفاة الزعيم التاريخ للثورة الجزائرية «الحسين آيت أحمد» (دا الحسين) داخل سيل من التعازي وذكر مآثر الرجل والتذكير بمواقفه، بل استذكر كثيرون كيف وقف (الرجل) عديد المرّات (في عنف أحيانًا) أمام ماسكي السلطة في الجزائر، من رفاق الأمس زمن الحرب التحريريّة..

هناك إحساس أو تعبير  أو شعور « باليتم»، بعد رحيل هذا «القائد التاريخي» الذي انفرد خارج سرب المؤسّسين بعدم ممارسة السلطة، بل بقي بعيدًا عنها، مناوئا لها، وفي مرّات قليلة (أو ربّما نادرة) «قريبًا منها» أو حتّى في حال من «الرضا» عليها ومنها…

 

رحل «أخر العنقود» وخاتم المجموعة التي أشعلت الحرب التحريريّة، كغيره من المجاهدين، دون أن تحسم الجزائر على المستويين المعرفي والتاريخي، علاقتها بثورتها، حين لا يزال سيل «كتب المذكرات» عاجزًا عن أمرين:

ـ حسم أمور معرفيّة دقيقة، حين تتعارض الروايات وتتضارب، وصار هذا «الشاهد» يكذّب ذاك «الشاهد»، دون حسم في هذه «المعلومات»…

ـ قدرة هذا «السيل المعرفي» على تحويل مسألة «الثورة» من بعدها الشخصي (أو هو الذاتي والحميمي) إلى «إرث وطني» (بالمعنى الفعلي والفاعل)، وثانيا تفعيل هذا «السيل» في شكل المادة الخصبة بين أيدي المؤرخين القادرين (بحكم العلم والمعرفة)، على تحويلها إلى «ماكينة» يعملون من خلالها، بل يستطيعون الخروج منها إلى «قناعة وطنيّة» (راسخة) تؤسّس لتلك «الذات الوطنيّة» التي وجب الاعتراف أنّها «مهزوزة» أو «مهتزّة»، أو «مهترئة»…

 

رحل «آخر العنقود» دون أن تحسم الجزائر ذاتها مع ماضيها الملتهب، أو أن تحدّد موقفًا من إرث جمع بين خصوبة نادرة وسخونة عجيبة، حين عاش «دا الحسين» في الآن ذاته، صورة:

ـ الثائر الذي أشعل (بمعيّة من معه) حرب التحرير، في فترة أخذ اليأس مأخذه من «قيادات» (حينها)، اعتبرت الاستقلال «جنونًا)..

ـ المناوئ للنظام، حين حمل السلاح بُعيد الاستقلال (كغيره أو الكثيرين) سعيًا لاحتلال مساحة من السلطة أو هو ترسيخ «حقّه» أو حقّ من يمثلهم في «دولة الاستقلال» التي نظر إليه «الكثير من الثوّار» في صورة «كعكة» (قابلة للقسمة)…

ـ الوجه السياسي، القادر (في الآن ذاته) على وضع مسافة (ضرورة) بينه وبين من حكموا الجزائر، لكنّه كان على قدر كبير من الذكاء، من عدم «الابتعاد» كثيرًا عن مركز القرار ودواليب صنع السياسة في الجزائر.

 

Da Houcine

حسين آيت أحمد

نحسب للرجل مآثر كثيرة، ونعتبره أحد أهمّ رجالات الجزائر وصانعي استقلالها، حين ترك دائمًا أو هو حافظ، بل احتفظ على الدوام بذلك «البعد الأخلاقي» في جميع تصرفاته، وكذلك (وهذا الأهمّ) لم يجعل من «المشاركة في الحكم» غاية في ذاتها أو «نصيبًا من الكعكة»، حين غلبت في داخله «آنفة» (الرجولة) على «الطمع السياسي» الطبيعي والمشروع (أحيانًا)

بقدر ما يمكن أن نعدّد مآثر الرجل وما انفرد به، بقدر ما مثل جزءا من طبقة سياسيّة، عجزت (خصوصًا بعد الاستقلال) على بلورة «ذات جزائريّة» (جامعة)، تملك قدرة «التأسيس لمشروع دولة» وليس ما نراه الآن من «شبه دولة» عاجزة عن تأدية أبسط واجباتها…

دخل الراحل في صراعات كثيرة، حسم بعضها السلاح، وخيّر في العديد منها «التراجع» إلى «منفاه» (الاختياري) في سويسرا، في رفض «رمزي» (لكن خطير جدًا)، بل هي الرسالة الحارقة:

بلد شارك في تحريره، لم يعد يجد لذّة العيش فيه…

 

بكى الكثيرون الراحل، وسيبكيه آخرون، لكنّ «شعور اليتم» (الغالب على الجزائر) يأتي دليلا (صريحًا ومباشرًا) على عجز جيل كامل عن «صناعة الدولة» ومن ثمّة «بناء الأجيال»، أو ربّما جعل الأجيال تتلاحق وتتوارث الأفضل، لا أن تورّث بعضها العنف والبغضاء ودولة صارت خيالاً، وحال اجتماعي مزر واقتصادي لا يبشّر بخير…

 

يعجز الموروث الاقطاعي الذي لا يزال جزءا مؤسّسا للعقل الجزائري (أو للعقل السياسي) العيش خارج «مظلّة الزعامات»، وإن كانت ثورة «نوفمبر المجيدة» قد «قضت» بل وأدت واجتثت «الزعيم الأوحد» من عقل الجزائريين ووجدانهم…

احساس اليتم خطير جدّا، وفائض «الحرقة» دليل على أنّنا أمام «الورقة الأخيرة» من «شجرة الثورة»، بل من «غاب الدولة»، وأنّ البلاد صارت بلا حماية أو رعاية أو حتّى «وصاية» (جزائريّة)….

 

ستنسى النخب «دا الحسين»، وسيدخل الرجل «الماضي التاريخي» بعد أن مثّل (لسنوات) ركنًا من «الحاضر السياسي»، دون أن يجيب عن أسئلة تتراوح بين تقدير الواقع وتحمّل المسؤوليّة…

عجز «الحسين آيت أحمد» (كما جيل بكامله) عن الخروج بنا من ذلك التراوح (المرضي بل الخطير) بين «تقديس» (الذات) مقابل «تدنيس» (الطرف المقابل).

عجزنا وعجز الرجل معنا (حين يأتي جزءا من عقليّة البلاد ونسيج السياسي) عن الخروج من «قمقم الثورة» إلى «آلة الدولة»… ثورة لم تصفّ حساباتها وتركت دفاترها مبهمة، ودولة تأسّست (ولا تزال) على العنف القطعي (المادي والمعنوي) والرفض الكلّي (لكلّ طامح أو طامع)…

 

مات الرجل وفي نفسه أكثر من حرقة، لأسباب أهمّها أنّ الدولةـ لم تحسم، سواء في بعدها التاريخي منذ 1962، أو وجهها الحاكم (حاليا)، أسئلة طرحها بيان فاتح نوفمبر المجيد، عن مسألة الهويّة والمنوال الاجتماعي، ومن ثمّة «تأسيس دولة الحريّة والعدالة»، أي (بمختصر الحديث) أن تكون هناك «جمهوريّة جزائريّة» (فعلا) يتجاوز فيها تعريف «الديمقراطيّة الشعبية» الشعارات المعلنة والترديد الآلي، إلى «فرحة الحياة» (المفقودة في الجزائر)…

 

الغرق في البكائيات، لا يمثل أي احترام لرجل وضع روحه يوم فاتح نوفمبر فوق ميزان الثورة وكفّ الوطن، ومن ثمّة كان يعلم ويدري ويوقن بأنّ المهمّة شاقة والدرب صعب والطريق أطول من أن يحسبها فرد أو يتخيّلها ذهن (حينها)، لذلك لا يمكن للموت أن تتحوّل أو تصنع في نفس الرجل ذلك «الخوف» العادي، بل الطبيعي والمعقول.

حين نفهم معنى الموت (أو هي الشهادة) عند رموزنا ندرك قيمة «الحياة» في جزائرنا اليوم…

 

رحم الله الشهداء، كلّ الشهداء دون استثناء، وغفر لنا، وحفظ البلاد وخفّف البلاء عن العباد… آمين…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي