زيارة ماكرون إلى الجزائر : خطاب رنّان بوعود جوفاء….

28 أغسطس 2022

قراءة معمّقة للصور التي تناقلتها وسائل الإعلام، المرئيّة على وجه الخصوص لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، تثبت بما لا يدع للشكّ أن الفرح الذي بدا على وجه الضيف يأتي أضعاف أضعاف ما كان على وجه صاحب البيت عبد المجيد تبّون، ممّا يعني يقينًا أنّ آمال أو بالأحرى مطامع ماكرون تتراوح بين «صناعة صورة» تجبّ ما قبلها من توتّر بسبب تصريحات أدلى بها عن «انعدام العمق التاريخي» للدولة الجزائريّة، مرورا بالوقوف المباشر لفرنسا وراء المملكة المغربيّة في النزاع الدائر حول الصحراء الغربيّة، وصولا إلى «الانقلاب» الذي عرفته دولة مالي، وترى دوائر قريبة من السلطة في باريس أنّ «الاستخبارات الجزائريّة لعبت دورًا محدّدا وحاسمًا» في انجاز هذا «الزلزال» الذي هزّ «العرش الفرنسي» وجعل هذه الدولة، تشرع في العدّ الفعلي والفعّال لفقدانها المتسارع لمربّعات نفوذها في القارّة السمراء.

دوائر عسكريّة فرنسية أبدت انزعاجا معلنًا من تدهور المكانة السياسية وحتّى العسكرية ومن ثمة وصول الوضع الاقتصاديّ والاجتماعي إلى حضيض لم يسبق الانحدار إليه، جعل «القيادة المدنيّة» ورأسها رئيس الجمهورية على يقين بأنّ سياسة «العصا لمن عصى» عديمة النفع، بل هي ستدفع من لا يزالون يؤمنون أنّ الانقلاب الذي جدّ ذات يوم جمعة بتاريخ 21 أفريل 1961 بالعاصمة، ضدّ الرئيس ديغول، مثّل «الحلّ الأمثل»، إلى العمل على استعادة ذاك المجد، والذهاب في ذات السيناريو. مع فارق محدّد، بل حاسم، حين نعلم أنّ عمقًا شعبيا لا يُستهان به، أبدى تضامنا ملحوظا مع ما صدر عن هذه «المراجع العسكريّة»، وأكثر من ذلك، أنّ «استعادة المجد التليد، يغفر القفز فوق مؤسّسات الدولة». يسعى الرئيس الفرنسي من وراء هذه الزيارة إفهام هذا «المحرّك» (العسكري) أنّه يتفهم مخاوفه، بل هو يتبناها، على أساس أنّ (إعادة) «فتح الجزائر» وإن كان «سياسيا»، تمثل نقطة الالتقاء الأولى، بين هذا العمق العسكري، وقيادة السلطة التنفيذيّة، تسابق الزمن، من أجل استعادة مجد غابر، وإن كان من خلال صورة التقاطها مصوّر الرئيس الفرنسي في «مرقص ليلي» في مدينة وهران «الزاهية».

 

يعلم العقل الجمعي الفرنسي، بل هو اليقين الذي لا تشوبه أيّ شائبة أنّ «مغامرة أوكرانيا» ستكون ذات كلفة عالية، لا قدرة للاقتصاد الفرنسي على تحملها، وكذلك، يعلم هذا العقل، أنّ تعلّات «الوقوف إلى جانب الديمقراطيات» وأيضًا «مجابهة الدول المعتدية على سيادات الدول المستقلّة» (المقصود روسية) لا يمكن أن تكون ذلك السبب الذي سيجعل الشعب الفرنسي يعيش أو بالأحرى يقبل بتحمّل أزمة اقتصادية أعلن عن قربها الرئيس الفرنسي ذاته عندما «بشّر» الفرنسيين بأنّ عهد «الرخاء وبحبوحة العيش» ولّى وانقطعت ريحه.

دوائر صنع القرار في باريس، تعلم يقينًا أن عودة نسخة جديدة ومنقحة من «السترات الصفر» مسألة وقت لا غير، والأخطر أنّ موجة الاستياء القادمة ستكون أوسع جماهيريا وأشدّ عنفًا من سابقاتها.

OIPأمام هذا الأفق الضيّق والمفتوح على احتمالات، الواحدة أشدّ سوءا من الأخرى، وأمام ضيق أفق لا يقلّ خطورة مسّ «العقل العسكري»، لم يجد «الراعي» ايمانوال سوى حمل عصا الترحال والضرب في الأرض، بحثًا عمّا يسكن به وهن اقتصاد على حافة الانهيار، واتساع رقعة الرفض للوجود الفرنسي في افريقيا، وما نتج عن ذلك من تململ مسّ النخب الفرنسيّة، سواء الماسكة للمال أو السلاح.

من الجانب الجزائري، يتجاوز عمق اللوبي المعادي لفرنسا، مؤسّسة الرئاسة ذاتها، ليمسّ الدوائر العسكرية ذا النفوذ الكبير، بل والحاسم بالمعنى القطعي، في المجال العسكري المباشر، وما لا يقلّ عنه أهميّة في المجال الأمني (ضمن المعنى الأوسع للكلمة).

يتجاوز مفهوم «السياسة» لدى هذه الدوائر التعريف الأكاديمي المباشر، بمعنى «جلب المنافع ودرء المكاره» إلى اليقين الذي يرقى إلى مرتبة الإيمان القاطع، بأنّ فرنسا في جانبها «الاشتراكي» كانت وشكّلت (منذ ستينات القرن الماضي) رافدًا للمشروع الصهيوني ضمن مجال النفوذ الفرنسي، وكذلك «اليمين» (التقليدي) الذي كشّر عن وجهه الصهيوني القذر، بوصول نيكولا ساركوزي إلى قصر الإليزيه، والانخراط مجددا في منظومة الحلف الأطلسي، في تجاوز علني ومفضوح، لما هي «قواعد العلاقة» مع الجانبين العربي والصهيوني التي أرسى قواعدها الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول.

لذلك، يتراوح الموقف بين ألوان الطيف السياسي الفرنسي، تجاه «المستعمرات السابقة» عامّة ودولة الجزائر على وجه الخصوص، لدى العقل السياسي صاحب القرار، ضمن حيز لا تمسّ الفروقات داخله سوى أبعاد جدّ تكتيكيّة، لا يمكن، بل يستحيل المراهنة عليها لتحصيل أيّ نفع أو درء أيّ مكرهة.

من ذلك يؤكّد العارفون بخبايا «الدولة العميقة» الماسكة لدفّة القرار في الجزائر، أنها لم تسع البتّة، بل رفضت المشاركة من وراء الستار كما تفعل عادة إبّان الانتخابات الفرنسيّة الأخيرة، الرئاسيّة على الوجه الخصوص، دعمًا لهذا المرشّح أو بالأحرى قطعا للطريق أمام منافسه، ليقينها أنّ الجميع «صناعة واحدة»، فقط مع تغييرات طفيفة على مستوى التعليب ومن ثمّة التسويق.

كذلك، جاء الإجماع داخل القيادة الجزائريّة، سواء منها المدنيّة أو العسكريّة، على رفض أيّ «مساعدة» فرنسيّة على إطفاء الحرائق التي مسّت عدّة مناطق في البلاد، دليلا، عن «عدم الثقة في نوايا الطرف الفرنسي» في أدناه، وأنّ فرنسا في أقصاه، شريك الأطراف الاقليميّة والصهيونية التي تناصب الدولة الجزائريّة العداء المقيت. من ثمّة تمثل فرنسا ذلك «الشريك» بصورة ما، ومن يتحمّل مسؤولية احتراق عدد غير قليل من الجزائريين.

مهما اختلف القراءات لطبيعة هذه «الدولة العميقة» في علاقة بالجار اللدود فرنسا، يستحيل احتساب الشخص والسياسي والرئيس عبد المجيد تبّون ضمن «الحزب المهادن» لفرنسا، بل هو ضمن «الجناح المتطرّف»، مع ما تمليه طبيعة الشخص ومستلزمات المنصب، من خطاب ليّن في الشكل، قاطع في المعنى.

 

على شاكلة «خفيّ حُنين»، يمكن الحديث عن «رونجارس الجيش»، سواء كان جزائريا أو فرنسيا… ماكرون يختار ما يليق به…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي