شيرين عطوان، أم عبد الباري أبو عقلة؟

23 مايو 2022

يمكن الجزم دون أدنى نقاش أو قابليّة للتأويل أنّ عمليّة اغتيال الزميلة شيرين أبو عقلة تمثّل أحد أهمّ التحوّلات الكبرى في تاريخ الإعلام العربي، ليس فقط لما تتمتّع به الشهيدة من قدرات مهنيّة متميّزة، أو لمقام قناة «الجزيرة» على الصعيدين العربي كما العالمي، بل (وهنا الخطورة والتميّز) أن صارت عمليّة التصفية أو هي انقلبت من «مجرّد اغتيال صحفيّة فلسطينيّة»، كما يجدّ منذ سنوات، إلى حدث افتتحت به قنوات عديدة نشراتها وأوردته أخرى في صورة الخبر العاجل… قنوات لم تكن تهتمّ بالشأن الفلسطيني إلا في صورة وقوع عملية استشهاديّة، في انتصار للدم الصهيوني، حين تقدّمه في صورة الدليل الحيّ، عن «همجيّة الإرهاب الفلسطيني»، أو في أشدّ الحالات «اعتدالا» يكون الحديث عن «تبادل للعنف» دون الغوص في البعد التاريخي ومن ثمّة الأخلاقي للصراع، ودون الحديث عن البون الشاسع والفارق البيّن، في موازين القوى بين الطرفين، على مستوى التسليح، أو على مستوى عدد «الضحايا» من الطرفين.

يُحسب لقناة «الجزيرة» (مهما كان الموقف من القناة أو سياسة الدولة التي تموّلها، أي إمارة قطر) أنّها تحوّلت إلى «رقم صعب» ضمن معادلات الصراع في العالم، في المجال الإعلامي خاصّة، وأساسًا على مستوى تطويع العقول وصياغة القناعات، وفق ما تتبنّى هذه القناة من خلفيّة، مهما كان الموقف منها.

كذلك لا يمكن النظر إلى الفورة الإعلاميّة التي تلت عمليّة التصفية بدمّ بارد لزميلة تمثّل أحد أركان هذه القناة القطريّة في فلسطين، سوى ترجمانًا صادقًا على تحوّل «الجزيرة» (منذ سنوات) من مجرّد «وسيلة إعلاميّة» إلى «فاعل سياسي» من الدرجة الأولى، سواء اعتبرنا القناة في صورة الصاروخ العابر للقارات الذي يباهي به أمير قطر، أسوة بمباهاة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بصواريخه المتجاوزة لسرعة الصوت عديد المرّات، أو اكتفينا من باب «دفع التفكير» بتصديق شعار «الرأي والرأي الآخر»…

على المستوى الذاتي والمهني وجميع الدوائر المتداخلة ضمن الفضاء العربي، بدءا بعائلة الفقيدة ومرورًا ببيت المقدس وبيت لحم، وسائر المشرق العربي، ووصولا إلى قناة «الجزيرة» وما هو حولها من دوائر انتماء أخرى، تصل حدّ العالميّة، يمكن الجزم أنّ شيرين أبو عاقلة، رغم مئات أو هي آلاف المواضيع التي أنجزتها في حياتها مستندة إلى مهنيّة متميّزة لم تقطع «شعرة معاوية» مع انتمائها الفلسطيني العميق، استطاعت بوفاتها تقديم «أشدّ الأعمال» قوّة وأكثرها قدرة على إثارة المشاعر.

maxresdefault

على المقلب الأخر، بقدر ما هو شعور بالعظمة أمام هذا الاصطفاف العربي والإسلامي والدولي، حول بشاعة جريمة التصفية، بقدر ما هو السؤال العقلاني والرصين والهادئ عن مآل عمليات تصفية والإيقاعات والاعتداءات الأخرى، تمّت وقد لفّها النسيان، بل هي تحوّلت إلى مجرّد رقم، تتولّى (في أفضل الحالات) الجمعيات الحقوقية ونقابات الصحافيين، اعتماده لتحيين الاحصائيات الخاصّة بالاعتداءات على الصحفيين الفلسطينيين.

تعرّضت الزميلة هناء المحاميد منذ سنوات إلى اعتداء جسدي من قبل الصهاينة، ولم تجد ما يليق بالفعلة من تنديد، بل (يمكن مراجعة كتابات الكثيرين على وسائل التواصل الاجتماعي) هناك من شمت فيها وكاد يرقص طربًا. ذات الأسماء الشامتة ذرفت دموعا صادقة وهي ترى نعش الزميلة شيرين أبو عقلة يترنّح تحت هراوات شرطة الاحتلال الصهيوني.

كم هو جميل أن نذرف الدمع صدقًا من أجل زميلة تميّزت في حياتها بنشاط مهني جاد وممتاز، وكم هو مقرف أنّ نوسّع عدسة الرؤية قليلا لنرى أنّ القنوات التي بكت في حرقة عمليّة التصفية بدمّ بارد (وعلى رأسها قناة «الجزيرة»)، لم تكلّف نفسها نشر خبرٍ، مجرّد خبر عابر بين نشرات اخباريّة تحدّثنا أحيانًا عن حلويات العيد في دولة المغرب الشقيق أو هي مهنة النحاس التقليديّة في الجزائر، عن رفع قضيّة ضدّ قيدوم الصحافة العربيّة المهاجرة، ومؤسّس أحد أهمّ بل أهمّ صحيفة مهاجرة، أي «القدس العربي»، عبد البارئ عطوان.

نعلم وندري ولا حاجة إلى ذكاء مفرط لفهم أنّ إمارة قطر ومن ورائها قناة «الجزيرة» تقف موقفًا الضدّ للموقف الذي يقف عنده عبد الباري عطوان ومن معه، لكن حين نحاسب «الجزيرة» بأدوات قالت «الجزيرة» ذاتها أنّها تعتمدها نبراسًا عند العمل، نجد (عندما نصدر أكثر الأحكام لُطفًا) أنّ على «الجزيرة» التي تتباهى بأنّ علوية الخبر لا يخضع لمزاج حاكم أو هوى مسؤول، أن تعاقب (أو تصوّب) فعل «الجزيرة» القناة، لأنّنا نرى فارقًا يتعمّق وبونًا يتوسّع بين ظاهر اللفظ وباطن الفعل.

لا تمثّل «الجزيرة» عند هذا المستوى، ذلك الخروف الأسود الشرّير وسط قطيع من الحملان البيضاء الوديعة المسالمة.

هي أزمة مجتمع وعمى وعي وعدم قدرة حضارة على انتزاع الذات من عصبيّة أقرب ما تكون إلى أخلاق الجاهليّة، عندما نرجم بعضنا البعض بما هي الألفاظ السمينة عن «حقوق الإنسان» وما لفّ لفّها من «لغة مضروبة» كما يقول فتيتنا.

فقط وحصرًا «الجزيرة» هي الأرقى والأفضل والأشدّ مهارة في مجال «ضرب اللغة» لا غير، أشبه بعصا موسى عليه السلام، حين استطاعت ولا تزال، قادرة على صناعة ذلك «السحر» الذي تزيغ به العقول.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي