صناديق التبرّع: من وقاحة الابتزاز إلى نذالة التسوّل…

17 مارس 2016

قمّة الغباء والسذاجة وحتّى السخف وقلّة العقل، ربط «القضاء على الارهاب» بالتبّرع للصندوق الذي تمّ إنشاؤه لمحاربة هذه الأفة. المسألة لا علاقة بكمّ المال المتبرّع به أو الذي تحتاجه الدولة للقضاء على الإرهاب، بل (وهنا الأخطر) بمسائل جوهريّة، بل هي مسألة واحدة: هي خلط الواجب بالتبرّع، أيّ المزج (المرضي) بين «القانون» من ناحية في مقابل «الأخلاق».

الأغرب والعجيب أن ترتفع أصوات سياسيّة وأخرى إعلاميّة، تضع مقاومة الإرهاب والقضاء عليه مشروطا بل مقرونًا بتبرّع أوسع شريحة ممكنة بأرفع مبالغ ممكنة.

 

ربط التبرّع بالقضاء على الإرهاب يحيل على وجهين قبيحين:

أوّلا: الابتزاز: ضمن الواقع الارهابي، تتحرّك غرائز البقاء في البشر، مهما كان الإرهاب وشكله ومهما كانت البلاد، وبالتالي أي ربط للوجود أو للحياة أو للسلامة، بهذا «الصندوق» أو ذاك، يمثّل «ابتزازًا» صريحًا…

ثانيا: الانتقاص من هيبة الدولة: حين يتمّ الربط بين واجب الدولة، أو هو «وجودها» إن لم نقل «تعريفها» الأرفع، أيّ تأمين الحماية والوجود والأمن والراحة، بما هي «أهواء الناس» لأنّ «التبّرع» (لغة وقانونًا) فعل غير ملزم، تكون الدولة تحت رحمة مواطنيها…

الخلط بين «العاطفة الوطنيّة» من جهة في مقابل «الواجب القانوني» ينسف مفهوم الدولة من أساسها. على المستوى المالي، للدولة حقّ لا ينقضه أيّ مواطن، في أيّ دينار ينتقل من يد إلى أخرى نظيرة سلعة (مهما كانت) أو (خدمة مهما تكون)، ومن ثمّة تتكّل دولة على «حقّها» لدى المواطن، ويكون على هذا المواطن أن يؤدّي هذا «الواجب» من باب «الالتزام الاجباري» وليس «الهوى العاطفي».

 

في موازاة «الواجب» الذي يلزم بما هو «حقّ الدولة»، تنسج المجتمعات منذ القدم، أدوات أو هي شبكات تآلف تآزر، سواء على مستوى العائلات (في الأعراس والمآتم مثلا) أو الدوائر الاجتماعيّة الأخرى، وبالتالي (وهنا الخلط المريض) لا يجوز بأيّ حال أن نضع «الواجب» في مقابل «العاطفة»…

عند الفرز والتمييز ووضع الفوارق التعريفيّة والوظيفية بين كل من «الواجب» في مقابل «العاطفة»، يكون من درجات تماسك المجتمعات وجود هذه «الآليات» التي تضمن «التكافل» بأشكاله. عندها يمكن الحديث عن «صندوق لمساعدة الطلبة المحتاجين» أو «صندوق لمقاومة الإرهاب»، أو غيرها من شبكات التآزر أو أدوات العمل الخيري…

 

على المواطن أن يعي أنّ للدولة أن تأخذ من المال العام، بحساب وبالقانون ووفق أصول الشفافيّة وحسن التصرّف والحوكمة الرشيدة، ما يلزم وما يكفي لمقاومة «غول الارهاب» لأنّ هذا «الإرهاب» لا يهدّد الناس في أرزاقهم أو بعض وجودهم، بل هو مرادف للفناء والعدم، ومن ثمّة تأتي مقاومة الإرهاب، «فرض عين» سابق للفروض الأخرى للدولة، وليس (وهنا المصيبة) مرتبط بتبرّعات الناس وأهوائهم وما (قد) يهزّ البعض من نوايا حسنة. نوايا قد تتحرّك وتنقلب مع تغيّر الأخبار.

المسألة لا يمكن أن تعني المال في بعده الكمّي، من حقّ الدولة (عند الحاجة فعلا) بحسابٍ وبالقانون ووفق أصول الشفافيّة وحسن التصرّف والحوكمة الرشيدة، أن تلزم بضريبة جديدة أو أيّ شكل من أشكال جمع المال، التي على المواطن الالتزام بها مهما كان الظرف ومهما جاءت الوضعيّة الاقتصاديّة لأنّ «الحرب على الإرهاب» في حال تفاقم الوضع (لا قدّر الله) حرب حقيقيّة وبالتالي، تستلزم مالا ورجالا (ونساء كذلك) وسلاحًا…

 

بعض الطوباويين والحالمين بالدولة المثالية، الذين لم يغادروا بعد «أبراجهم العاجيّة» يتخيّلون أنّ بالإمكان قيام «الدولة» على مبدأ «الالتزام الطوعي وغير الواجب»، أي بمعنى أخر «التطوّع والتبرّع»، وبالتالي يتركون الدولة في مهبّ العواطف وميزان التبرّع.

الدولة كائن حيّ، يتحوّل إلى «كائن أقوى» زمن مقاومة الإرهاب، ومن دلائل هذه القوّة وعلاماتها، بل شروطها، الزام «الجميع» (دون الاستثناء) بالجهد «الحربي» وليس ترك الحبل على غارب التبرّع….

 

من الأكيد أن التبرّع زمن الحروب (على الإرهاب) قادر على تقديم الفارق وجعل الدولة (أي الجميع) يمتثل لما هي «المصلحة العليا»

الخطر في جعل «التبرّع بالمال» هو الأساس، أن نجعل «التجنيد» (مثلا) زمن الحروب «طوعًا» وليس «إلزامًا». الحالمون يجعلون من «التبرّع» (بالمال) وكذلك من «التطوّع» (في الحرب)، حركات نبيلة، لكنّها (والتاريخ أثبت ذلك) عاجزة عن تأمين «الوجود» (وجود الدولة ووجود الفرد)…

يتطلبّ الوضع في تونس، إعادة عقارب الساعة للدوران في الاتجاه الصحيح، لكنّ المصيبة الكبرى تكمن في أنّ الدولة (ذاتها) استبطنت ضعفها وصارت إلى تقبّل أن تكون «اليد السفلى»، بل أن تقبل بركوب أياد أخرى فوق يدها….

 

المطلوب من الدولة الخطاب التالي:

أوّلا: أنها تجعل من «محاربة الإرهاب» واجبًا وليس مهمّة ترتبط بالأهواء والتبرّعات، حين تستطيع بحساب وبالقانون ووفق أصول الشفافيّة وحسن التصرّف والحوكمة الرشيدة، أن تصرف ما يجب صرفه، للقضاء على هذا «الغول»…

ثانيا: أن تشجّع كلّ أعمال المساهمة الشعبيّة والتطوّعيّة، شريطة ألاّ تتداخل هذه المساهمات مع دور الدولة، بل أن تكون تحت عين الدولة ومراقبة القانون…

 

من الخطأ الجسيم والقاتل، القول بوجود «صندوق يقاوم الإرهاب». مهمّة هذه الصناديق وهذه الأعمال التطوّعيّة تكون في الصفوف الخلفيّة. مثل مساعدة ضحايا الإرهاب، أو الوقوف إلى جانب عوائل شهداء الجيش والأمن والديوانة، أو التكفّل بجزء من علاج جرحى هذه الأسلاك، لا أن تدّعي هذه الصناديق وهذه المبادرات أن تكون في الصفوف الأولى…

 

ختامًا: طريق جهنّم معبّدة بالنوايا الحسنة، وتكون هذه الطريق حارقة جدّا، عندما تكون الدولة مثل «الأطرش في زفّة» الارهاب.


325 تعليقات

  1. الارهاب هو فكر وسلوكيات هدامة ويبشر بثقافة الموت. لن يقاوم ويقضى عليه الا بفكر حر سلوكيات بناءة وبثقافة الحياة. يعني الحكاية مقاربة شاملة خاصة فكرية وحضارية وثقافية مع استنباط منوال تنمية اقتصادية واجتماعية جديد جذوره متأصلة في الموروث التونسي وأغصانه عالمية ولكي يثمر الخير وجب محاربة الفساد والافساد بكل أبعاده. “صعيب شوية مع هاته الازلام القديمة والجديدة التي تمسك بكل أسف بمقاليد الحكم والتحكم ما يسمى سلطة أو بالاحرى تسلط بشرعية الصندوق؟”

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي