قايد صالح: من الانذار بالصفّارة إلى تقنية «الفار» (Var)

11 مارس 2019

العارفون ببواطن الأمور في الجزائر ومن يدركون عمق شعبها وطبائعه السيكولوجيّة، يدركون أو بالأحرى أدركوا، أنّ «شعرة معاوية» التي انقطعت يوم الجمعة 22 فيفري 2019، من المستحيل إعادتها إلى الحال الذي كانت عليه قبل خروج الناس بالملايين إلى الشارع. فقط تعمل «منظومة بوتفليقة» ولا تزال منذ ذلك التاريخ  من أجل ربح الوقت ومن ثمّة الاستفادة من «تغيير الشخص» بغية «استدامة المنظومة».

تدرك هذه المنظومة أنّ بقدر ما جاء الشارع أشبه باليمّ الهادر والسيل العارم والطوفان الذي لا يمكن لأيّ سدّ أن يقف ضدّه، هو كذلك (أيّ الشارع) عاجز أو بالأحرى لا يملك «الأدوات الفعليّة» للمرور من مقام «الطاقة الكامنة» إلى مرتبة «القوّة الفاعلة»، حين جاء الاجماع (شبه تامّ) أنّ منظومة بوتفليقة وفروعها من أحزاب «الموالاة» وما يتبعها من نقّابات وشبكات المجتمع المدني، لا تختلف استراتيجيا ومن ثمّة وظيفيّا عمّا يسمّى «معارضة» (أو بالأحرى المعارضات) بشتّى صروفها، حين عجزت هذه المعارضات عن أن تضمن لذاتها على مرّ السنين (على الأقلّ منذ بداية التسعينات) ذلك «التفوّق الأخلاقي» الذي به ومنه وبواسطته بل ومن أجله نزل الشعب ولا يزال إلى الشارع، طلبا واصرارًا على العود عن السياسة من ماكيافليّة «منظومة بوتفليقة» التي تصّر منذ العهدة الرابعة على ترشيح شخص لا يملك من الصحّة الحدّ الأدنى الضامن لممارسة سياسيّة «محترمة» وكذلك (وهذا الأخطر) القادر على تأمين «السلم الاجتماعيّة» حين لم يفعل بوتفليقة منذ جلوسه على سدّة الحكم سوى تحويل الشعب (بدرجات متفاوتة) إلى «شريك بالتواطئ» في استهلاك «ريع النفط». هذا إذا تجاوزنا إفلاس المنظومة على مستوى التأسيس لما هو ضروري من «مشروع مجتمعي»…

أمام إفلاس «منظومة بوتفليقة» على أكثر من جبهة، وقصور «العمق الشعبي» عن التحوّل إلى «فاعل سياسي» بالمعنى المباشر للكلمة، ينظر الجميع إلى «مؤسسة الجيش» ليس فقط في صورة «اللاعب التاريخي» منذ إندلاع ثورة نوفمبر المجيدة، بل لتكون (مؤسّسة الجيش) ذلك «الواصل» (بالمعنى الكهربائي)، القادر على ضمان «مخرج مشرّف» لمنظومة بوتفليقة أوّلا وثانيا الضامن (بالمعنى المادي) لعدم ذهاب منظومة بوتفليقة في خيارات أقرب إلى الانتحار منه إلى «الرأي الصائب والعاقل»…

ذلك ما يفسّر الانزلاق التدريجي الذي يمارسه خطاب قائد الأركان ونائب وزير الدفاع أحمد قايد صالح، من «الوعيد والتهديد» إلى التماهي بل هو تقاسم «هموم الشعب وتطلعاته». يجلس أحمد قايد صالح على أرض رخوة بل هي متحركة إن لم نقل متقلبّة، بين ارتباط شخصي/وظيفي بمنظومة بوتفليقة من ناحية أولى، وأيضًا عدم رغبته/قدرته الذهاب في منطق الصدام مع العمق الشعبي دفاعا عن مصالح من سيطعنونه في الظهر عند أوّل انعطاف (أيّ منظومة بوتفليقة)، وثالثًا (وهنا خطورة اللعبة) عمق داخل هرم الجيش يرفض أن يتحوّل إلى «أداة قمع» لهذه «الهبّة الجماهيريّة» وثانيا يرفض رفضا قطعيا لتحوّل الجيش إلى «لاعب سياسي» (بالمعنى المباشر)، أيّ وضع خيار «الانقلاب العسكري» (بالمعنى التقليدي للكلمة) ضمن الخيارات الممكنة والاستعداد لها فعليّا، كما نصحت «جهات فرنسيّة» بل وحرّضت على ذلك….

يدرك قائد الأركان ونائب وزير الدفاع أنّ مصيره مرتبط عضويا بمصير «شريكه» بوتفليقة، مع فارق كبير بل على قدر كبير من الخطورة (بمعنى الأهميّة): ليس أمام «سي عبد القادر المالي» (الاسم الحركي للرئيس الحالي زمن الثورة) إلاّ مخرجا واحدًا، يكمن في المغادرة أو هو التنحّي/التنحية، في حين يملك قايد صالح خيارات عديدة، أهمّها ما جاء ضمن افتتاحيّة «مجلّة الجيش» تلميحًا بمعنى التحوّل إلى «منقذ» للبلاد والعباد، وضمان مَخرج مشرّف لشريكه «بوتفليقة» ومن ورائه كامل المنظومة التي تمعّشت من مرضه، وأيضا أن يجسّد ذلك «الرجل الذي أنصت إلى صوت الشارع» بل مكّن «الثورة» (الشعبيّة) من تحقيق مطالبها، دون أن ننسى «مصالحة تاريخيّة» مع عمق الجيش الذي لا يقاسمه ذات الخيارات السياسيّة ولا السياسات المتبعة في إدارة المؤسّسة العسكريّة.

عن دراية أو عدم وعي، يقدّم أحمد قايد صالح «كأس السمّ» إلى منظومة بوتفليقة، حين تأتي افتتاحيّة «مجلّة الجيش» (الأخيرة) اعترافا وتسليما بل أساسًا طلب المغفرة عن «ذنب سابق» استوجب «الاعتذار» بين الأسطر، ممّا يعني أنّ السياسة في البلاد يصنعها محور «الجيش ـ الشعب» في تناس أو هي «الطعنة» (في الظهر) لمنظومة بوتفليقة ومن ورائها منظومة الأحزاب الناشطة على الساحة السياسيّة.

لا أحد في العالم (بما في ذلك أفضل كتّاب السيناريوهات السياسية في البلاد) يستطيع الطلب أو تخيّل أن قايد صالح يمكن أن يضحّي بمصلحته الشخصيّة من أجل «منظومة بوتفليقة»، وكذلك لا أحد (من الأطراف الفاعلة على الساحة السياسيّة) قادر (لاحقًا) على محاكمة الرجل أو حتّى نقد مسيرته أو محاسبة مساره، دون محاسبة جميع الفاعلين السياسيين/العسكريين من «شركاء المرحلة» (أو المراحل) منذ جويلية 1962، كما عبّر عن ذلك صراحة ودون مواربة المترشّح الحالي (والعسكري السابق) علي غديري حين أكّد على «عبثيّة» المحاسبة التي (في حال القيام بها) وجب أن تعود إلى سنة 1962.

580يدرك قايد صالح عبثيّة أو عدم جدوى بل عدميّة خطاب الجلوس على مقعدين كما جاء في خطاباته الأولى أيّ مساندة «العهدة الخامسة» وكذلك «تهديد المناوئين» دون نسيان الطابع الشعبي للجيش الوطني الشعبي، لعلمه وادراكه ويقينه بعبثيّة الجمع (في خطاب واحد) بين «منظومة بوتفليقة» من ناحية و«التماهي/التطابق» مع العمق الشعبي، لذلك نزح الرجل (تدريجيا) بخطابه من «الوعيد» إلى ارسال أحٍرّ القبلات الحارّة ومن القلب إلى عمق شعبي، يدري بل هو اليقين أن القطيعة والوقيعة بين قايد صالح (وما يمثّل) ومنظومة بوتفليقة يمثّل المسمار الأخير في نعش هذه المنظومة الباحثة عن الخروج من شرنقة «سي عبد القادر» في شكل «فراشة» ترضي العمق الشعبي وفي الآن ذاته تستعيد أواصل العشق مع جيش يكون قايد صالح قد غادره إلى مسقط رأسه في ضواحي مدينة عنّابة…

اللاعبون (راهنَا) ضمن الدائرة الأولى لمنظومة بوتفليقة يعلمون ويدركون بل هو اليقين أنّ البلاد تقف أمام «نهاية رجل رفض المغادرة» أو بالاحرى تاجرت به المنظومة إلى أخر رمق، ليكون سؤالهم (وسؤال الجميع) عن موقف قايد صالح مدفوعًا بعمق الجيش من «المخالفات» التي هم بصدد ارتكابها (أي اللاعبين): هل سيصفّر الجيش «المخالفات» مباشرة دفاعًا عن حقوق العمق الشعبي أم سيتمّ المرور إلى تقنية Var عبر انتخابات شفّافة تنطلق بالبلاد والعباد إلى أفق رحب جديد، جاءت ملامحه في بيان «فاتج نوفمبر» المجيد.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي