قيس سعيّد : «ليلة الكريستال» في نسختها التونسيّة

29 نوفمبر 2022

لا حاجة لضرب الأقداح أو القراءة في الرمل أو غيرها من وسائل كشف المجهول، للجزم بأنّ «إفشاء» القائمة التي صارت حديث الناس، يأتي غرضا في ذاته، بمعنى أنّ «الترويج» جاء بقرار من «جهة» (ما) تعتبر أنّ حربها ضدّ المجموعة المكوّنة من 25 شخصا، «وكلّ من عسى أن يكشف عنه البحث» مفتوحة على جميع الاحتمالات.

كذلك، قراءة في الأسماء الواردة، مهما تكن درجة «التورّط» (المفترض) الذي على أساسه، أَمَرَ مساعد وكيل الجمهوريّة بالمحكمة الابتدائية في تونس بفتح «بحث تحقيقي»، يثبت بما لا يدع للشكّ أنّ جميعهم دون استثناء «لم يعبّروا عن أدنى امتعاض» عندما قرّر الرئيس قيس سعيّد تفعيل الفصل 80، بل إنّ أغلبهم إنّ لم نقل كلّهم عبّر عن فرحة شديدة عندما تمّ إزاحة «النهضة» عن الحكم، ومن ثمّة كانت المباركة وجاء التأييد لهذا «التغيير».

خلوّ القائمة من أسماء محسوبة على «الخصم الظاهر»، أيّ تلك الكوكبة التي تجمع المنخرطين في سياق «جبهة الخلاص» وتوابعها، يؤكّد بما لا يدع للشكّ أنّ قيس سعيّد ينظر إلى «أولويات المعركة» (في الوقت الراهن) من خارج السياق الظاهر، أيّ أنّ «العداوة الكبرى» لا تخصّ «جبهة الخلاص» ومشتقاتها الاعلاميّة، بل (وهنا الخطورة) استدارت السهام نحو من «وقفوا ذات يوم» مصفقين ومباركين «الحركة التصحيحيّة» التي أنجزت ما هم عجزوا عن فعله، أيّ إقصاء «الإسلام السياسي» عامّة، وحركة «النهضة» خاصّة.

مراجعة لمسار الأحداث، منذ 25 جويلية 2021، يؤكّد أنّ خارطة الولاءات/العداوات عرفت انقلابات عدّة، عندما جاءت الردود الأولى من الجهة أو الجهات التي تنتمي إليها الأسماء الواردة في القائمة، مباركة، بل هي اعتبرت «التغيير» خطوة نحو «تصحيح الوضع» بمعنى إزاحة «العدوّ التقليدي»، الذي صار «مشتركا»، وبناء على ذلك حسبوا أنّ مجرّد الاشتراك في «عداء الإسلام السياسي» كاف ومتجاوز بذاته لجميع العوائق الأخرى، بغية قيام «حلف مقدّس» على أساسه يكون «تقاسم السلطة» (مع قيس سعيّد)، أو (على الأقلّ) يكون لبعضهم بعض المناصب في أبعادهم الفرديّة، حين اليقين قائم، أنّهم يصرخون جماعة ويتصرّفون وفق غريزة الذات النافية لبعضهم البعض.

Rتداخل الدوائر الداخليّة مع حلقات المحيط الإقليمي مع الترسيم الدولي مناطق النفوذ، يعطي لعمليّة «كسر العظم» هذه بعدًا اقليميّا وكذلك دوليّا، حين لا يمكن لأيّ من الأسماء المذكورة ضمن القائمة نفي أنّ فرنسا (مثلا) «تقاسمهم الهموم ذاتها، وتعبّر عن ذات الهواجس التي عبّروا عنها»، ومن ثمّة دون الطعن في النوايا أو الرجم بالغيب، هم يقفون على ذات «الضفّة» التي تقف عليها باريس، مع التأكيد على أنّهم يصرخون جماعة ويتصرّفون فرادى، ومن ثمّة تنتفي تهمة «العمالة» بالجملة، ليكون على الأبحاث اثبات أيّ تهمة بحساب الفرد.

الحرب في بعدها القضائي هامّة جدّا، لكن لا يمكنها أن تحتلّ صدارة المشهد وتتجاوز التوازنات الاقليميّة وخطوط النفوذ الدوليّة. لأجل هذه الغاية، أيّ مواصلة المعركة بأسلحة أخرى وميادين بديلة، جاء تسريب الوثيقة، على اعتبارها «فعل ردع» وتنبيه على «من يملك وعيًا» بأنّ «الضربة القاضية» مسألة وقت لا غير…

من نتائج هذا التسريب أنّ علت أصوات عديدة من داخل القائمة، ليس فقط تنفي التهمة، بل تعتبر ذاتها غير معنيّة بهذا الصراع، ليكون قيس سعيّد كسب جولة، حين أدخل فيلا هائجا في ما يملك هؤلاء «الخصوم» من دكان لبيع «الكريستال» العاجز أو هو الرافض للوقوف في وجه أي ريح، فما بالك «تسونامي» قادر على محو ما يدّعون من «روح الجماعة» التي كان من المفترض أن تغلب عند النوائب، من خلال التكتّل وإصدار بيان جماعي.

الجهة التي أصدرت الوثيقة، من التأكيد أنّها تسير في ركاب قيس سعيّد، سواء علم أو هو على غير علم بالتسريب، تعلم وتدرك أنّ المواجهة في «الداخل» تستوجب دعمًا اقليميّا، يتقاطع أو هو يأتي استمرارًا لما هي معركة «التحالفات» القائمة في المنطقة، وأساسًا المحور الجزائري/الروسي وامتداداته في العمق الافريقي، في مواجهة فرنسا «الراعي (شبه) الرسمي والعلني» لعدد لا يُستهان به ممن جاءت أسماؤهم ضمن القائمة.

من المشروع طرح سؤال عن السبب الذي جعل «صاحب القائمة» يكتفي بهذا العدد وبالأسماء الواردة، حيث اليقين قائم، بأنّ «مساعد وكيل الجمهوريّة» (الذي أمضى الوثيقة) قادر على ادراج أسماء أخرى وجعل التهم أشدّ «ثقلا»، لتكون القائمة (بلغة كرة القدم) مجرّد «ورقة صفراء»، حين اليقين قائم بأنّ «الورقة الحمراء» ستتخذ بعدًا اقليميّا وربّما دوليّا…

عاملان يحدّدان مسار هذا الصراع الداخلي/الإقليمي/الدولي (بدرجاته) :

الأوّل : الجنون الفرنسي، حين تجد باريس ذاتها مجبرة على الصراع على أكثر من جبهة، أساسًا في «الحديقة الخلفيّة» الافريقيّة، أين فقدت (تقريبًا) جميع نقاط ارتكازها، وبالتالي يكون التعويل على تونس (رمزيّا) من أجل رفع معنويات عمق الجيش الفرنسي خاصّة، حين عبّرت قيادات عديدة عن امتعاضها من التوجه الفرنسي، ممّا ينقل «الحروب من أجل المستعمرات» لتكون «حربا داخل فرنسا»… مع تأثيرات ذلك على مجمل شبكة النفوذ الفرنسي في تونس.

ثانيا : موقف حركة النهضة، التي تعلم بما هو اليقين أنّ حالة «السلم» (غير المعلنة) مع القيادة السياسيّة الماسكة للسلطة في تونس، محكوم أو هو بضمانة اقليميّة (جزائريّة بالأحرى) الرافضة رفضا باتّا للسيناريو المصري في تونس، بأيّ صفة كانت، ومن ثمّة تعلم أنّ نهاية الأمور (وفق الرؤية الجزائريّة) البحث عن مخرج، جاءت تقديرات عبد اللطيف المكّي أوّل قطرات غيثه…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي