قيس سعيّد : ماسك السحاب زمن جدب…

8 أغسطس 2021

حين نوسّع دائرة الرؤية ونُعمل أدوات التحليل العلميّة، في نزوع دون العواطف الجيّاشة والغرائر المدمّرة لأيّ نظرة موضوعيّة، بخصوص الرئيس قيس سعيّد نجد أنّه صنع «أسطورته» بمعنى «الصورة الذهنيّة» المتراكمة في الأذهان، اعتمادًا على ما يلي :

أوّلا : صورة «الناسك» المنقطع عن «دنس» السياسة، والذي لا يعرف في الحقّ لومة لائم التي ترسّخت في أذهان الناس، منذ أوّل ظهور له، سواء على شاشات القنوات المحليّة أو العربيّة منذ 2011، صاحب الصوت الجهوي والالقاء المسترسل في نفس أكاديمي. كذلك صورة «الصارم» الذي لا يظلم ولا يرحم. دون أن ننسى صورة المعارض الشرس للمسار الذي اتخذته البلاد منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وكذلك الدستور الذي تمت المصادقة عليه سنة 2014.

ثانيا : نجاحه في انتخابات الرئاسيّة لسنة 2019، حين ارتقى إلى الدور الثاني، وسط دهشة شبه عارمة لما آلت إليه نتيجة الدور الأوّل، بمعنى فوز مرشحين من خارج المجال السياسي التقليدي. كما تأكّدت صورة هذا النجاح، حين أصبح «رجل توافق» ضَمِنَ له 73 في المائة من الأصوات، وما مثّل هذا الفوز من رمزيّة، حين أسّست له هبّة شبابيّة منقطعة النظير، رفعت الرجل إلى مرتبة لم ينلها غيره من قبل، أيّ شرعيّة انتخابيّة دون ماض سياسي، على خلاف «الزعامات» التاريخيّة الأخرى التي عرفتها البلاد.

ثالثًا : رغم محدودية الصلاحيات الممنوحة لمنصب رئيس الدولة، من قِبَل دستور 2014، خدمت الأحداث قيس سعيّد وكذلك بعض فصول الدستور، بطريقة مدهشة، بدءا بفشل حكومة الجملي في الحصول على تزكية مجلس نوّاب الشعب،  الشيء الذي رفعه (وفق الدستور) إلى «حكم» يمتلك أو هو يستفرد بأحقيّة اختيار رئيس الحكومة. هذا الاستفراد، أدخله في دوّامة صراعات مع كلّ رئيس مجلس نوّاب الشعب، ومع رئيس الحكومة، خاصّة هشام المشّيشي.

رابعًا : إقدام قيس سعيّد على تفعيل الفصل 80، وعلى الأخصّ وفق قراءة جدّ ذاتيّة، مثّل صدمة قويّة جدّا، لدى كامل الطيف السياسي في تونس، كما خارجها، حين تجرّأ رئيس محدود الصلاحيات، يعيش حالة مواجهة معلنة وحرب مفتوحة، على الذهاب في خيار يعلم يقينًا أنه يُدخل البلاد في مرحلة، مهما تكن نتائجها، تقطع ما كان سائدًا، قبل إطلالته يوم 25 ليلا وإعلان التفعيل.

سؤال يؤرق الجميع (داخل تونس، خاصّة خارجها) : هل يستطيع قيس سعيّد، وسط مصاعب داخليّة، وتحديات اقليميّة ودوليّة، ضمان الحدّ الأدنى من شروط النجاح لمشروعه، وفق ما يملك من أوراق قوّة :

أوّلا : عمق شعبي، لا يمكن تأكيد نسبته كما لا يمكن الاستهانة به، ليس فقط أبدى فرحا كبيرًا بهذا التفعيل، بل يعتبر قيس سعيّد «منقذًا» ومن ثمّة يعول عليه، ليس فقط لإخراج البلاد من حال الانسداد السياسي، بل توفير كلّ ما عجزت الحكومة أو الحكومات السابقة على توفيره.

ثانيا : اصطفاف الأسلاك المسلّحة وراءه، حين نستثنى إقالة وزير الدفاع بُعيد إعلان التفعيل، ممّا يعني أنّ هذا الأخير، إمّا أنّه كان رافضًا للتمشّي الذي أقدم عليه قيس سعيّد أو هو لا يمثّل «رجل المرحلة».

ثالثًا : محيط إقليمي ودولي لم يبد ترحيبا بهذا «التصحيح» لكنّ لا أحد اعتبره «انقلابًا» (بصريح العبارة)، رغم التخوّفات وإعلان القلق بشأن «الانتقال الديمقراطي»، أو «دور المؤسّسة العسكريّة»…

رغم النقاط القوّة هذه، يمكن الجزم أنّ مستقبل ما يراه الخصوم «انقلابًا» لا يزال «غير مضمون» (بلغة التفاؤل)، و«محفوف بالمخاطر» (بلغة التشاؤم). حين دخلت تونس (بإرادة قيس سعيّد أو رغما عنه) ضمن لعبة الاصطفاف الإقليمي والدولي، بمجرّد اعلان التفعيل الموجه أساسًا ضدّ حركة النهضة، المصطفة جهرًا وعلنا، ممّا يجعل منه (موضوعيًا) يشترك في معاداة النهضة مع الحلف المعادي للحلف الذي تنتمي إليه النهضة، أو (وفق خصومه) هو أعدّ «الانقلاب» بدعم ومباركة ومشاركة وتمويل من الحلف المعادي، للحلف الذي تنتمي إليه لحركة النهضة.

acrسعندما نرى كمّ الزيارات التي أدّاها مسؤولون من دول عديدة إلى تونس منذ 25 جويلية، وعندما يقين قائمًا بوجود حلفين متصارعين، وعندما نتأكد من مكانة تونس، سواء نظرنا إلى موقعها الاستراتيجي بين ليبيا والجزائر وانفتاح المعادلة على منطقة الساحل والصحراء، أو أنّها على مرمى قوارب الهجرة السريّة، من أوروبا، يكون اليقين الذي لا يحتمل النقاش، أنّ صراع قيس سعيّد مع من يرفضون «انقلابه»، هو أبعد من «صراع داخلي».

الصراع الداخلي، يمثّل فقط وحصرًا، الجزء البارز من معادلة الصراع أو بالأحرى درجات الصراع الإقليمي والدولي، ليكون السؤال الذي يستوجب الطرح : هل يملك قيس سعيّد الأدوات والموارد التي تجعله يذهب ترسيخًا وتأسيسًا، في الخيار الذي أقدم عليه ليلة 25 جويلية، إلى منتهاه؟

يمكن القول أنّ أوراق القوّة بين أيدي الرئيس التونسي لا يمكن أن تتحوّل إلى «صكوك على بياض» دون سقف زمني :

أوّلا : العمق الشعبي الذي أبدى فرحًا وأكثر من ذلك ابتهاجا، أثبتت التجارب أنّه ليس فقط متقلّب المزاج، بل سبق له عديد المرّات، أن انقلب من النقيض إلى النقيض على من صفّق ونادى بحياته، سواء زمن الحبيب بورقيبة، «أحداث الخبز» أنموذجًا، أو في عهد زين العابدين بن علي، بين الفرح المفرط الذي يفوق بكثير جدّا الفرح، بُعيد السابع من نوفمبر 1987، حين أبدت الجماهير اعجابًا شديدُا بما أقدم عليه قيس سعيّد، ليسيل الدم بداية من 17 ديسمبر 2010، ويسقط رأس النظام. هذا العمق الشعبي المتعطّش للقضاء على جائحة كورونا، بموازاة تحسّن اقتصادي فعلي وفاعل وملموس، لا يمكن أن يبقى في حال انتشاء بهذا «التصحيح الثوري» إلى الأبد. مهمّة صعبة جدّا في ضوء الوضع القائم واعتماد منوال تنمية يشرف عليه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وقد سبق أن عانت تونس الويلات من هذا المنوال، الذي يقف وسيقف قيس سعيّد عاجزا عن تغييره. فقط هي «جرعات» لا تسمن من جوع، وعاجزة عن تأمين الحدّ الأدنى من تمنيات العمق الشعبي، الذي يبحث عن دولة «الرعاية الاجتماعية»….

ثانيا : لا يملك قيس سعيّد، حين نستثني الأسلاك المسلّحة وما يسعى إليه من سباق محموم ضدّ الزمن للسيطرة على مفاصل الدولة، هيكلا منظّما، أي «ماكينة» مدرّبة على العمل وذات قدرة تنظيميّة في الحدّ الأدنى، تضمن له التغلغل في عمق شعبي، هو بصدد مصارعة النهضة علنًا من أجله، ومن الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّه سيصارع اخرين لاحقًا، بدءا بمن يرونه دخيلا على «العائلات السياسيّة» الواقفة عند تقاطع السياسة مع المال، مرورًا بمن يعتبره مجرّد «بلدوزر» تتلّخص مهمّته في إزاحة النهضة، فقط وحصرًا، نهاية بمن كانوا (من المثقفين خاصّة) يحلمون أو يتمنون أنّه (أسوة بما فعل بن علي) سيدعوهم إلى تقاسم الحكم معه، والحال أنّ الرجل، أعرب منذ 2011 وصرّح أمام أكثر من شخص بأنّه يرفض «السيستام» بكامله، جملة وتفصيلا، بل يملك «برمجية» مناقضة، أساسها التدرّج في «الديمقراطيّة التشاركيّة» الصاعدة من الأسفل إلى الأعلى.

 

لا يمكن نفي أنّ قيس سعيّد (الشخص والرمز والمنصب) يحتل قلب الرحى ضمن المعادلة السياسيّة في تونس، كذلك لا يمكن أن ننكر أنّه أشبه بالبهلوان، يقفز بين الحبال، مع وجود أكثر من طرف سيسحب شبكة الأمان وسيعمل على قضم الحبال، بعد أن يؤدّى ما عليه ويكمل المهمّة وينجز المطلوب… أم في الأمر «معجزة» لا يمكن رؤيتها؟؟؟


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي