قيس سعيّد والثورة 2.0 : الصفعة للأزلام… وللإخوان…

18 أكتوبر 2019

لم يكن قيس سعيّد الفائز في الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسية بأعلى نسبة تصويت، في حاجة إلى الكثير من القول أو الفصل في الأشياء أو التفصيل في مشروعه. وجوده كافٍ لعمق شعبي انتخبه في الدور الثاني، خاصّة، يعيش وضع يتم أبوي وحالة خصاصة ثوريّة، حين تراوحت أو توزّعت «القوى المفترض أن تكون ثوريّة» (بحكم الإرث النضالي ورأسمال النضال وخاصّة حالة الوعي المفترضة)، بين نظريّة راشد الغنوشي بالالتصاق بالملاكم الخصم، مقابل قعود البقيّة على الربوة، ينتظّرون، بل يتغنّون وهُمْ على «الميّه» [أيّ الماء وفق الأغنية] ويتغزلون بما هو «ربيع» (متواصل) من قرارة ذواتهم (فقط)، دون أن يحرّك أحد منهم ساكنًا، على اعتبار أنّ «صواب التوصيف» اعتمادًا على مرجعيّة «أخلاقيّة/ثوريّة»، يُغني وكاف، بل «فرض كفاية»، يُغني عن ضرورة التحرّك الفعلي والفاعل.

جاء من سفّه «الواقعيّة السياسيّة» في نسختيها: واقعيّة «التغنّي» بالتمنيات المنقوصة والتمنيات الناقصة، مقابل واقعيّة (أخطر بكثير جدّا) أسّس لها الفكر الإخواني منذ إعدام شهيد الحركة السيّد قطب، زمن التلماسي والهضيبي، تعمل على قواعد ثلاث، في علاقة مع «اللوغس» الغربي وملحقاته من الأنظمة التابعة بالضرورة :

أوّلا : عدم ترك أيّ كرسي، ممكن الجلوس عليه شاغرًا، مهما كانت طبيعة الكرسي وطبيعة المهمّة التي يتطلّبها هذا الجلوس،

ثانيا: البحث عن «نقاط تقاطع» مع ألدّ الأعداء ضمن «لعبة الكراسي» وعدم قطع «شعرة معاوية» مع أيّ كان، بل وجوب ولزوم اختراع «نقطة تقاطع» هذه من عدم، في حال استحالة وجودها، وإن اقتضى الأمر اختراع حكاية «الملك العاري» في نسخة نهضويّة جديدة، بدءا بالعود إلى «الإرث البورقيبي»، وصولا إلى القول بأنّ عبد العزيز الثعالبي «جذر مشترك» مع «أعداء الماضي» الذين أصبحوا «أخوة الحاضر»،

ثالثًا : افهام جميع الدوائر المرتبطة بالغرب أو التابعة له والمؤتمرة بأوامره، ضمن دوائر اللعبة الدوائر المحليّة والاقليميّة والدوليّة، أنّ النهضة (والاخوان من ورائها) ليس فقط يملكون قدرة تطويع ذواتهم، بل هم الليونة ذاتها، وأصحاب قدرة (وهنا الخطر) على «التراجع» [المسمّى «مراجعات»، أقدم عليها المؤتمر العاشر]، ممّا حرق أوراق التنظيمات العلمانيّة، التي تأتي (افتراضًا) أقرب إلى هذا «الغرب» (العلماني افتراضًا) المعادي (في كنهه) لكلّ ما يرتبط بما هو «إسلام سياسي» أو على علاقة به. أسّست النهضة، لحال من التعفّف ونكران الذات، وتضحية بالاستراتيجي من أجل التكتيكي وبيع الغد من أجل اليوم، بل حصر كامل «الذكاء» في بعد غرائزي بحت، همّه «البقاء» أو هو «دوام الحال» في «المناطق الآمنة» التي تقطع، مع سجون رطبة ومناف (قالوا أنّها) علقم وقمع دموي شديد، ذاقه عشرات الآلاف المناضلين وعوائلهم.

فعل قيس سعيّد في كلمات قليلة ما عجز عنه راشد الغنوشي في عشرات السنين، بل إنّ ميزة الأوّل صفاء القول ووضوح المعنى وتحديد الهدف بكلّ وضوح، في حين جاء الثاني (وسيواصل) البحث في علوم «تدوير الكلام» وكذلك «تربيع المفاهيم»، اعتمادًا على مفرادت ومفاهيم، يفهمها أصدق الأصدقاء وألدّ الأعداء بما يرضي هذا وذاك. هو أشبه بقوس قزح يعطي لكلّ ذي لون لونه، أو (بالتعبير الدارج) أشبه بدور «القهواجي»، الذي يعطي كلّ حريف ما يطلب.

لأسباب تكتيكيّة وليست استراتجيّة، تتعلّق بطبيعة المرحلة وأولويات الصراع، ضرب قيس سعيّد المنظومة القديمة مقتلا، وأطاح وبوجهها الإعلامي (أيّ نبيل القروي) بالضربة القاضية، في حين ارتأى (إلى حدّ الآن) أن يناقض فكر النهضة مرجعًا وأن يتباين مع صنيع قيادتها فعلا، بل أجبرها (وهنا خطورة المسألة بل مصيبة النهضة) ليس فقط، على الزيادة في كمّ «الجرعة الثوريّة» في خطابها، بل الانقلاب على الذات، من خطاب «توافق» (من أجل بناء الوطن مع «النداء» ومشتقاته ) إلى خطاب «ثوري»، كثيرًا ما حاربته قيادات النهضة، بل وواجهته بكثير من السخرية إن لم نقل الازدراء أو حتّى التحقير.

ghannouchi-kais-730x430خطورة قيس سعيّد بالنسبة للنهضة، لا تكمن في منطوقه. غيره كثير من أنصار «لاءات الخرطوم» (لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات)، قالوا كلام يشبه كلام الرجل، بل في أنّ هذا «الكلام» مسنود بقرابة ثلاثة ملايين تونسي، أغلب النهضويين منهم، بل الخطر في أنّ هذه «النهضة القاعديّة» لا يمكن، بل يستحيل، إن لم نقل من سابع المستحيلات، أن تكون صوّتت للرئيس الجديد، على شاكلة تصويتها للمرزوقي سنة 2014، أي «مجرّد تصويت» تعود إثره إلى «مربعها الأصلي»، بل ستذهب كلمات قيس سعيّد أو هي ذهبت أشبه بقنابل موقوتة داخل النهضة ستنفجر تباعًا وستؤدّي إلى زعزعة «مقام الغنوشي» وإحداث أكثر من شرخ في قدوسيّة هذا الرجل الذي أقنع كثيربن، وصدّقه كثيرون أنّ «النهضة بدونه هباء منثورًا»…

 

لذلك نفهم الهجوم الشرس الذي قاده القيادي البارز في حركة النهضة محمّد بن سالم على قيس سعيّد، على احدى المحطات الإذاعيّة، واعتبره «يساريّا متطرفّا». محمّد بن سالم عاجز كلّ العجز راهنًا عن ترداد ربع هذه «الاهانات»، ليس لجبن في الرجل أو خوف في ذاته، بل لأنّ هذا الكلام، سيُغضب قدرا هائلا جدّا من قواعد الحركة، تعتبر أنّ «الولاء» (التنظيمي) للغنوشي و«الإيمان» (في القلب) عند سعيّد

مشكلة ومصيبة هذا التنظيم الاسلامي (النهضة) الذي قام (ولا يزال) على بيعة الولاء والبراء في المنشر والمحشر، والذي ناضل سنوات عديدة، بل صار رأس الأحزاب المناضلة، ودفع الآلاف من الشهداء، وعشرات الآلاف من المساجين لفترات طويلة وأكثر منهم من ضحايا البطش والطغيان، ويقوده «شيخ تكتاك»، قيل أنّه معاوية وماكيافلي وبورقيبة في آن واحد، أن يجد نفسه غداة التصريح بنتائج الدور الأوّل، أن يجد ذاته مجبرًا، بل صاغرًا على تعديلل كامل «موجته الأخلاقيّة/السياسيّة» على «الطبقة الكلاميّة» هذا الناسك فعلا، الذي لا يملك من متاع الدنيا شيئا (مقارنة بميزانيات النهضة العلنيّة وما خفي كان أعظم)، رأسماله، موقف وعقل ولسان، وما زاد عن ذلك لا يتعدّى (على حدّ قول الرواة) فنجان قهوة وقارورة ماء بلاستيكيّة، يحتسيهما في مقهى شعبي…

ارتداء مسوح الثورة من قبل قيادات النهضة بمجرّد إعلان نتائج الدور الأوّل، يفسّر تفسيرًا بالغا وبليغا حجم التراجع على مستوى الأصوات، على الأقلّ منذ انتخابات 2014، لتكون «القوّة» (الحقيقيّة) عند قيس سعيّد الذي جاء أشبه بالمقاتل خفيف الحمل قادرًا على التحرّك في سرعة والمناورة في جميع الاتجاهات، على عكس النهضة، التي جاءت أشبه بفرسان العصور الوسطى في أوروبا، بتلك البدلات الحديديّة، التي وإن كانت (كما حال النهضة) تمكّن من الدفاع بقوّة، إلاّ أنّها لا تسمح بالهجوم وتحقيق الانتصارات.

مسألة «برمجيات» وليس مقارنة بين الحجمين، ممّا دفع جمهور غير هيّن من النهضويين «اليتامى» إلى البحث عند قيس سعيّد عن أبوّة لم يعد راشد الغنوشي قادرًا على توفيرها، لخوفه من أن تتحوّل الآراء المختلفة (عن رأيه) بين صفوف الحركة إلى مشاريع تمرّد على شرعيته. ما كان لقيس سعيّد ولا سيف الدين مخلوف، أن ينال كلّ منهما ما نال في الدور الأوّل، لولا «شقّ عصا الطاعة» التي أعلنها جزء غير هيّن من المناصرين (داخل الحركة)، وبالتالي لم يأت اصطفاف قيادة النهضة جهرا وعلانيّة وراء قيس سعيّد (على عكس 2014، حين التزمت الحياد) سوى ذلك الخيار الأوحد خوفًا من قواعد، كانت ستنفجر في حال اختار مجلس الشورى الجلوس على الربوة.

يمثّل قيس سعيّد في نظر «النظام القديم» مجرّد «عشبة طفيلية» غزت «حقلهم السياسي» الذي هو (في أعماق قناعاتهم) لا يعدو أن يكون «وعدًا ربّانيا» مقدّر لهم (وفق الأسطورة البورقيبيّة) أن يتوارثوه إلى يوم الدين. جاء الرجل وهزم «الأحزاب» وحده، ليكون أقرب إلى ذلك «الكائن الخرافي» في حكايا الجدّات، عن الشاب الفقير المعدم الذي يخلّص «الأميرة» (تونس) من براثين «ساحر» خبيث (نبيل القروي) يملك قدرة التلّون (من «حنان أب» تركه «يتيمًا»، إلى تمجيد «سيده الشيخ»، دون أن ننسى مدحه للباجي وخدمته له، وشتمه والسخرية منه)، وأكثر من ذلك يمتلك «مرآة عجيبة» (قناة نسمة) تقلب الحقّ باطلا، وتسبغ على الباطل حقّا لا وجود له.

الثابت عند كامل منظومة «ما قبل قيس سعيّد» أنّها تعلم أنّه يمثّل خطرًا وجوديا على مصلاحها (النهضة والأزلام)، وتعلم أيضًا أن مهاجمة الرجل، تزيده قوّة وترفع من مقدار شعبيّة، بل (في ما يخصّ النهضة) تعتبر قواعد الحركة، أنّ مرجعيّة الفعل والتحرّك السياسي لقيادة النهضة، يجب أن تكون في توافق تامّ وتناغم يصل حدّ التطابق مع ما يقوله وينطق به «صاحب الصوت الجهوري»، وإلاّ ستنفصل عديد «البراغي» المهتزّة أصلا، منذ «انقلاب القائمات الانتخابيّة»…

فارق النهضة عن الأزلام، أنّ الأولى ستلاعب الرجل، وستسعى أو هي تسعى لإختراق محيطه الفكري والتنظيمي، والانقضاض عليه في هدوء وسكينة من الداخل، فيما ستسعى الدولة العميقة وملحقاتها إلى وضع جميع عصيها في أصغر دواليب قيس سعيّد، مثلما فعلت مع الترويكا… الرباعي الراعي للحوار رجع إلى التمارين…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي