كالعادة : أعداء الغنّوشي ينقذون الغنّوشي…

22 مايو 2020

الجميع يذكر فيلم «برسيبوليس» الذي تقف وراءه إحدى المحاميات، وأرادته طعنة قاتلة في قلب «الاسلاميين» أيّام معدودات، قبل انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011، فكانت النتيجة عكس ما أرادت، حين تدين النهضة بجزء من نتيجتها حينها إلى هذه «الهجمة» التي رآها العمق الشعبي المتديّن، ليس هجومًا على النهضة في ذاتها، بل [وهنا الخطورة] لأنّها تمثّل «الاسلام» في البلاد.

في مثل هذه الحالة، يكون السؤال بدءًا وأوّلا داخل العقل الذي فكّر وقرّر ودفع مالا كثيرًا بغية دبلجة هذه الرسوم المتحركة، من تعريب للحوار إلى كلفة التسجيل في أستوديو محترف، وأجور الأصوات التي أدّت الأدوار باللهجة التونسيّة، وهي على يقين أنّ بثّ العمل على قناة «نسمة»، سيشكّل «رصاصة الرحمة» في رأس النهضة، أو على الاقلّ، سيحدّ من انتشارها وتنزل بها إلى أدنى نسبة ممكنة في انتخابات المجلس التأسيسي.

من «مزايا» هذه الهجمات على حركة النهضة أنّها تلغي «النفس النقدي» داخل «الجماعة» وكلّ الأصوات المناوئة للزعيم راشد الغنوشي، وتدفع (بدلا عن ذلك) بهاجس «العذابات والسجون والمنافي»، ليس في المقام الأرفع والأعلى، بل تلغي جميع المسائل (بمعنى النزاعات) «العائليّة».

من ذلك كلّ من يفكّر مجرّد التفكير في ابداء أيّ نقد مهما كانت درجته حيال كرافات الغنوشي، يصبح «مارقًا»، فما بالك الذي يتلبّس الجرأة ويطرح أسئلة بخصوص «الانقلاب» الذي يعدّ له جهرًا راشد الغنوشي أثناء مؤتمر الحركة القادم، بالتمديد «مدى الحياة» لرئاسة بدأ الترويج لها، في صورة الحلّ الأوحد والوحيد لإنقاذ «الحركة» من أصوات «النعيق» (هذه) التي تتهدّد الحركة، بل وجودها وسلامة المنتسبين إليها.

portrait-screaming-clown-isolated-on-260nw-245725456يعلم راشد الغنوشي جيّدا، بالفطنة والحدس والذكاء، أنّ هذه الأصوات المتراوحة بين المطالبة بالتحقيق في مصادر ثروته أو الحالمة بإسقاطه، وحتّى بحلّ مجلس نوّاب الشعب، هي في قرارة أنفسها لا تحلم وأقصى مناها ما يلي :

أوّلا : تحسين الموقع في ترتيب القوى «الحداثيّة ـ الديمقراطيّة ـ الوسطيّة ـ الدستوريّة ـ البورقيبّة ـ المدنيّة ـ العلمانيّة» (وغير ذلك)» وإن أمكن القضاء هذا «الزعيم» على ذاك «الزعيم» ومن ثمّة الاستحواذ على «إقطاعه».

ثانيا : تحسين الصورة لدى القوى الاقليمية والدوليّة ذات النفوذ، حين يتمّ إثبات القدرة على إحداث التوازن مع «النهضة» وثانيا مشاغبتها عند الحاجة، وخاصّة ضمن «السيناريو» المرسوم.

دليل ذلك أنّ «توافق» الباجي/الغنوشي لم يكن، فكرة أحدهما، حين تبادلا أفظع الشتائم، بل «نصيحة» إقليميّة ودوليّة، تتفّق في الحدّ الأدنى على الحدّ الأدنى من الأمن والاستقرار في تونس، لأسباب لا علاقة لها بمصلحة البلاد، لا من قريب أو من بعيد.

تخطأ القوى «الحداثيّة ـ الديمقراطيّة ـ الوسطيّة ـ الدستوريّة ـ البورقيبّة ـ المدنيّة ـ العلمانيّة» (وغير ذلك)» وترتكب حماقة تتكرّر دون هوادة، حين تظنّ أنّ القوى الغربيّة «تحقد على النهضة حقدا دفينًا»، لأسباب لها علاقة (بما يُسمّى «الظلاميّة»)، وبالتالي فهي تعشقهم، أشد من عشق قيس لليلى، والحال أنّ التجربة، بل التجارب أثبتت أنّ الجميع «عدّة شغل» (بدرجات طبعًا) لدى هذه المراجع، دون أن يجلس أحد منهم ولن يجلس على كرسيّ الشريك.

ضمن قوس قزح المعادي للنهضة، هناك خلط مرضي عند قراءة المراتب التالية :

أولا : إزعاج النهضة

ثانيا : إسقاط النهضة

ثالثًا : اقصاء النهضة والحلول بدلا عنها.

تعلم القوى الاقليميّة والدوليّة ذات المصالح المباشرة في تونس، أنّ كامل قوس قزح المعادي للنهضة، على خلاف الصورة التي يريد صنعها، ليس على قلب رجل واحد (أو ربّما امرأة واحدة)، بل هم في أغلبهم (العائلات التجمعيّة ـ اليساريّة ـ الندائيّة) نتاج انشقاقات تأتي أشبه بسرطان دون علاج، وعداوات أثبتت التجارب أنّ الكره فيها أعلى (بكثير) ممّا يكنّون لحركة النهضة.

ليس هناك حاجة لشهادة قائد مثل حنّبعل أو بونابرت أو حتّى خالد بن الوليد، لليقين أنّ هذه الجماعات «المشتّتة قلوبهم» غير قادرة على اسقاط سوى ذواتهم وأنّ روح العداوة تجاه بعضهم البعض، أشدّ وأبقى وأعمق من أيّ غريزة أخرى، وإلاّ ما كان (الثعلب) الباجي قائد السبسي ليُعرض عن تشكيل حكومة تستثني النهضة، بُعيد انتخابات 2014، حين تأكّد هذا الداهية، أنّ أقلّ «الشركاء» (المحتملين) في هذا «المشروع» اشترط وزارات السيادة دون تنازل، في حين قبل الغنوشي المشاركة في وزارة الباجي (بقيادة حبيب الصيد) بوزير يتيم.

رهان الدول الكبرى ذات النفوذ والمصلحة في تونس، لا يتمّ على قاعدة «عداء الاسلام السياسي» أو في المقابل «التماهي مع الشقّ النقيض»، بل أساس الأداء والقدرة على الانضباط أمام وعند «الخطوط الحمراء».

بالمفهوم التجاري البحت، قدّم راشد الغنوشي ومن ورائه النهضة، أفضل الخدمات لهذه القوى وبأقلّ كلفة، في حين أثبت خصومها (بعد وفاة الباجي خاصّة) أنّ أقصى قدراتهم سلعة رديئة النوعيّة مصحوبة بمطالب خياليّة.

لا يعي قوس قزح المعادي للنهضة، بأنّ القوى الاقليميّة العربية وغير العربيّة، غير مخوّلة بالبتّ من أصله في مسألة بقاء/اسقاط النهضة من أساسه، ممّا جعلها تنخرط في مجهود الإسقاط وقد رهنت أو هي باعت جميع ما تتخيّل أرباحًا.

فقط ما هو مطلوب أو هو موكول لهذه القوى الاقليميّة (وذلك حدّ نفوذها) جعل النهضة تعمل تحت الضغط فقط، ليكون سقف مطالبها [أيّ النهضة] منخفض وكذلك جعل شعبيتها أدنى من سقف تحدّده القوى الدوليّة. دون ذلك ما نراه «مسرحيّة» قبض ممثلوها أجورهم مقدّما، لا غير.

ختامًا : لم تفهم ولن تفهم القوى الداخليّة والاقليميّة أنّ بعدائها المفضوح للنهضة وهجومها دون «قفازات»، لا تفعل سوى تقديم خدمة مجانيّة لهذه الحركة ذات الجذور الاخوانيّة، التي هي أشبه بالاسفنجة أو هي كذلك : عصرها يجعلها أقرب إلى بعضها البعض، وعند رفع اليد عنها، تعود إلى وضعها الطبيعي وقد تخلّصت من جميع شوائبها.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي