ما جدّ في ألمانيا : مجرّد هزّة استباقيّة، لا غير….

9 ديسمبر 2022

مثلما يولي علماء الجيولوجيا اهتمامًا كبيرا لأيّ هزّة استباقيّة في المناطق المهدّدة بالزلازل، عساهم يظفرون بأدنى معلومة، تؤشّر إلى توقيت «الزلزال الأكبر» ومن ثمّة الاستعداد له، يبحث علماء الاجتماع السياسي بمعاضدة سيل من الاختصاصات الأخرى عن أيّ «هزّة» داخل مجتمع بعينه، بغية رسم خارطة استشرافيّة، تمكّن من الاستعداد لما هو أتٍ.

من ذلك، من السذاجة والتبسيط قراءة (ما سمّي) «المحاولة الانقلابيّة» التي جدّت في ألمانيا بالأسلوب الكاريكاتوري الذي اعتمدته وسائل اعلام عديدة، أيّ أنّ ألمانيا تقف أمام «شرذمة ضالّة»، «تصطاد في المياه العكرة»، وبالأساس عاجزة كلّ العجز عن «قلب النظام» ومن ثمّة لن يتجاوز تأثير الفعل (في حال وقع) بعض «الخدوش» السطحيّة…. كذلك الإصرار على أنّ «الديمقراطيّة متجذرة في البلاد»، وأنّ «الألمان محصّنين ضدّ الفكر النازي»….

 

عندما نقرأ الواقعة بعين «الآن وهنا» (أي الزمن الراهن، في جمهوريّة ألمانيا الفيدراليّة) نجد أنّ هذه الجماعة «الإرهابيّة» أشبه بتلك «البعوضة» التي تسعى لإسقاط أضخم فئل على وجه الأرض. لكن أخطر من «الفعل المادي» الذي كانت هذه المجموعة تنوي الاقدام عليه، يكمن في «الجذور الروحيّة» لهذا الرهط من البشر، الذي ليس فقط «كفر» بما هي «الديمقراطيّة» (المعتمدة في ألمانيا راهنًا)، بل أساسًا يعتبر أنّ «القيادات السياسيّة» التي تداولت على الحكم (منذ سقوط النازيّة) تُمارس «خيانة مفضوحة» وكذلك «عمالة مكشوفة» لحساب الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

أخطر عنصر ضمن المعادلة المفتوحة هذه، يكمن في «الزمن»، بمعنى : من المستفيد منه؟ الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ «العقيدة النازيّة» تتجّه نحو الانتشار والتوسّع، رغم غياب رابط شامل على المستوى التنظيمي بين عشرات «الكيانات»، بعضها «مجهري» لا يزيد عن مجموعة حوار على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أنّ البعض الأخر، وصل حدّ جمع السلاح وإعداد العُدّة لارتكاب اعتداءات على رموز الدولة.

Rمنذ لحظة اكتشاف «المؤامرة» أو ربّما الكشف عنها، يكون لزامًا طرح السؤال التالي : «ما هو تأثير هذه «الضجّة الإعلاميّة» القائمة على تهويل المقاصد والاستنقاص ممّن ينوون ارتكاب مثل هذه الاعتداءات؟»، كذلك : «كم يلزم من الوقت لتملك هذه التنظيمات ما يكفي لتوجيه ضربات جدّ موجعة، سواء داخل ألمانيا أو خارجها؟»

رجوعًا إلى التاريخ، نجد أنّ «الحزب الوطني الاشتراكي» المعروف اختصارا تحت تسمية «الحزب النازي» نشأ على أيدي «شرذمة» على هامش المجتمع الألماني حينها، عبارة عن «مجموعات منعزلة»، لكن هؤلاء الذين كانوا على تخوم «المجتمع السياسي»، ليس فقط صعدوا إلى السلطة عبر انتخابات «حرّة ونزيهة وشفّافة»، واكتسحوا البلاد وقضوا بالكامل على جميع المناوئين في الداخل، بل اكتسحت جيوشهم الجرّارة، مساحات جغرافية واسعة جدّا، وبالأساس قلبت تاريخ أوروبا وأعادت رسم الجغرافية السياسيّة بالكامل.

من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ التاريخ لن يعيد ذاته في نسخة كمبيوتريّة من صنف «نسخ / لصق». التطوّرات التي شهدتها ألمانيا «التاريخيّة» على المستوى الاجتماعي خاصّة، لا تسمح بظهور «القائد» (على شاكلة هتلر) الماسك لمجمل مقاليد السلطة، حين تقف ألمانيا حاليا أمام أطياف من التنظيمات التي وإن اشتركت على مستوى الجذر الأيديولوجي، إلاّ أنّها تختلف بخصوص نقاط عدّة.

من ثمّة، هذا «الاكتشاف» أو «الكشف»، مهما تبدو خطورته، لا يعدو أن يكون سوى الجزء البادي للعيان من جبل جليد شديد الضخامة وأكثر من ذلك شديد الصلابة.

أبعد وأعمق ومن ثمّة أخطر من «الشبكات» النازيّة، التي تسعى الجهات الأمنيّة لتحديدها ومن ثمّة اختراقها والقضاء عليها عند الحاجة، أن يصير الشعور «بعدم الرضا» طاغيا، ومستقر في مرارة شديدة أسفل الحلق داخل المجتمع الألماني.

يمكن الجزم أنّ المستشار الألماني الحالي قدّم، في خضم التصدّي للحرب الدائرة في أوكرانيا، هديّة مجانيّة، أشبه بمدافع كسر فخّ التسللّ ومكنّ الفريق المنافس من تسجيل هدف قاتل في الوقت الضائع، لمباراة نهائي كأس العالم، عندما صرخ بأعلى صوته وضرب على الطاولة في البرلمان الألماني، وأعلن في حماسة كبيرة عن رفع ميزانيّة وزارة الدفاع لتصل دفعة واحدة حدود 200 مليار يورو.

هذا القرار، رغم ما أثار من حماسة لدى طبقة من السياسيين وتحفظ أخرين، يمثّل اعترافًا صريحًا لا يحتمل اللُبس ولا يقبل النقاش، بأنّ الاتّكال على «الاتّحاد الأوروبي» وخاصّة الشريك الفرنسي، كما التعويل على «الحلف الأطلسي» والراعي الأمريكي، جميعها عجزت عن تأمين الأمن وتوفير الرخاء، ومن ثمّة على ألمانيا أن تعوّل على ذاتها، وبالذات خارج «قفص الانتماء» إلى أيّ كيان.

 

نسف المستشار الألماني الأسس الذي قامت عليها «دولة ألمانيا الاتحاديّة» واستمرّت عليها بعد ابتلاع الجزء الشرقي من البلاد، بمعنى أن تنصرف ألمانيا إلى تنمية اقتصادها والتعويل على الحلف الأطلسي في المقام الأوّل ومن ورائه فرنسا بغية التمتّع بالحماية العسكريّة المطلوبة.

هذا الاعتراف العلني والصريح بوجوب التعويل على ذات، لا يعدو أن يكون سوى «مصداقًا» لمعتقد هذا اللفيف من المنظمات والجماعات والفرق التي بنت مجمل أيديولوجيّتها على بطلان أو هي حُرمة هذه العلاقة سواء في جانبها الأوروبي أو الأمريكي.

يرى عديد الخبراء أن رفع ميزانية الدفاع بهذه النسبة، يعني أوّلا وأساسًا أن يلعب، أو بالأحرى يعود الجيش الألماني للعب دورا «اندفاعيّا»، على مستوى تأمين حاجيات البلاد من الطاقة أساسًا، وهو دور بدأ هذا الجيش بتأديته في منطقة الساحل الافريقي. ممّا يعني أنّ «العود إلى الجذور المؤسّسة للجيش» (التوسّعي/النازي)، مسألة وقت لا غير.

 

هذا المشهد الألماني، نرى من خلاله دولة عاجزة عن تحمّل تبعات خيارات تمّ اعتمادها منذ نهاية «الرايخ الثالث»، هي أشبه بباخرة «تيتانيك» لا تستطيع التعويل على فراملها ومن ثمّة الاستدارة بالسرعة المطلوبة. وضع يلقي بظلاله على مجتمع، تمّ إفهامه منذ سقوط النازيّة، أنّه يعيش في أفضل نظام ممكن، بمعنى رخاء معطوف على أمن لا يلغي الديمقراطيّة.

فجأة جاءت الحرب في أوكرانيا، لتظهر مساوئ الخيارات التاريخيّة الكبرى، وكذلك العجز عن الاستدارة السريعة والحاسمة، ليس فقط لمغادرة المظلّة الأطلسية وعدم لعب دور «البقرة الحلوب» التي تغدق من واسع خزائنها على جميع «الدول الفاشلة» في الاتحاد الأوروبي، بل أساسًا للانعتاق من القمقم الأطلسي وفكّ «الزواج الكاثوليكي» الذي يربط برلين بباريس، على الأقلّ في النسخة التي قام عليها.

هناك رابط ميكانيكي بالأكيد، بين «القلق» الذي بدأ يصيب المواطن العادي في دولة ألمانيا الاتحاديّة بسبب التضخم والتهديدات الجديّة التي تتربّص باقتصاد البلاد، من جهة، وما يُنسب إلى «الخليّة» المكتشفة من نيّة الانتقال من ممارسة العنف.

 

قلق تاريخي مزمن، حين نشأت «حركات ارهابيّة» يساريّة، حصرًا في الدول التي خسرت ما يُسمّى الحرب الكونيّة الثانية، وهي دولة ألمانيا الاتحاديّة وإيطاليا واليابان، ممّا يعني أنّ مشروع مارشال في أوروبا كما المساعدات المسداة إلى اليابان، وإن مكّنت من تحسين الوضع الاقتصادي، إلاّ أنّها فشلت في تضميد بقيّة الجراح بالكامل…

الأزمة الاقتصاديّة التي تمرّ بها ألمانيا، حين غابت عنها الطاقة الرخيصة (نسبيا) بسبب وقف تدفّق الغاز والنفط من روسية، تأتي شديدة الشبه (على مستوى الشكل العام) مع أزمة 1929 التي انطلقت من الولايات المتحدة حينها، وأصابت ألمانيا، وجعلت عملتها أرخص فعلا من التراب.

حينها اختارت النخب الاقتصادية والمالية رجلا صارمًا، استطاع فرض القانون والعود بالبلاد إلى اقتصاد قويّ….

لا تهمّ التسميات…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي