مداشر الغبار ووقاحة قارئة الاخبار

9 سبتمبر 2017

نص بقلم ناجي غربي ـ سيدي بوزيد

مقدّمة:

نصّ قصير بل في غاية التكثيف، يروي مآسي مريرة وقتامة أليمة، عن واقع يعيش بجانبنا، بل هو فينا، غير أنّ العيون الشاخصة في الحضارة العابرة والصورة المتناثرة على الشاشات، أشاحت بعيونها عمّا فيها وراحت تتسلّى بعيدًا عن «خبز» تجاوز «الحفاء» إلى الدماء السائلة…

علّ ما فينا يراجع ما في دواخلنا…

نصر الدين بن حديد…

 

 

ابتسمت زينة في سرّها وهي تسمع المؤذن يذكر النيام أن الصلاة خير من النوم وتساءلت، أتراهم يستجيبون في هذا الصباح المتطرف البرودة، لا تذكر أن زوجها المتشدق بالتقوى قد ترك فراشه يوما تلبية لهذا النداء رغم قرب الجامع. لامته مرة فأجابها بتبرم أن لا أحد يأتي في هذا الوقت غير المؤذن أداءً لوظيفته. استغفرت ربها وانصرفت تسابق خيوط الفجر في إعداد شؤون بيتها قبل موعد الانصراف، أحسّت بنشاط وحيوية وغمر روحها فرح مفاجئ عزته إلى أن اليوم آخر أيام الأسبوع وستنال أجرتها الأسبوعية عند نهايته وغدا ستنزل السوق وتشتري المعطف الموعود لصغيرها بعد تميزه في دراسته وربما فاض مالها واقتنت حذاء لابنتها التي لا تزال ترتاد مدرستها بحذاء صيفي رغم توغل الشتاء

OAسال لعابها للبيضة الساخنة وهي تقشرها لتصنع منها مع قليل من الجبن والزيت ما يشبه اللمجة لنهار طفليها المدرسي الطويل، اكتفت بلعق ما علق بأصابعها والرضى والقناعة، ضمخت بعض رغيف بشيء من الزيت وحبيبات زيتون ودسته في كيس بلاستيكي مع قارورة ماء لغدائها في يومها الشاق. وقبل أن تترك البيت على عجل خشية أن تتأخر فيفوتها «مقاول الأنفار» الذي أصبح متبرما من كثرة العاملات وتفوت على نفسها يوم عمل هي في أمسّ الحاجة إليه، أيقظت طفلتها لتتلو عليها وصايا الصباح. «استيقظي واستعدي حتى لا تتأخرا عن الدرس، لا تشغلي بالك بالكنس والتنظيف «فيفوتكما الوقت» سأعود وأكنس، إحرصي أن يتناول شقيقك فطوره وتفقدي أدواته ولفي جنبيه وصدرة بالورق كما علمتك الطقس بارد، لا تنسي لمجتكما و«ردي بالك على وخيك»، إن أفاق والدك قبل خروجكما قدمي له الفطور. تهزّ البنية الجالسة على حافة الفراش نصف نائمة رأسها بالإيجاب فينسدل شعرها الأشقر يغطي وجهها. تذكرها «سرحي شعرك». تقبلها وشقيقها المتكور في فراشه كقنفد وتغادر مسرعة متأبطة زوادتها.

تحت طابية التين الشوكي على حافة الطريق لاحت لها في غبش الفجر أشباحا متحركة و سمعت أصواتا فاطمأنت أنها لم تتأخر فها هنّ الكادحات جاراتها قد سبقنها بانتظار شاحنة المقاول التي لم تمهلها حتى تتم تحية الصباح والسؤال عن حال ابن جارتها المريض، إذ توقفت دون أن ينخفض صوت شخير محركها ودون أن يكف عادمها عن إطلاق سحابة الدخان التي أصابت الراكبات بنوبة سعال وأطل بوجهه العبوس من نافذة بابها وقال دون أن يحييهن «إلي تلقى بلاصة تركب» ولم تكن زينة قد انتظرت أمره فهي تعلم أنه سيتركها إن هي تلكأت في الركوب تشبثت بالباب الخلفي ومدّت يدها تطلب مساعدة ترفعها إلى عربة الشاحنة المكتظة وأتتها النجدة بينما تحركت السيارة غير مكترثة لجارتها البدينة التي لم يسعفها وزنها وحركتها الثقيلة للتشبث، انهالت اللعنات على الشاحنة وصاحبها وعلت أصوات النسوة محتجّات دون جدوى، حشرت زينة نفسها وسط الجمع وشعرت بدفئ الأجساد رغم برد الصباح وذاك السم المتسرب من سطح العربة المبلل عمدا لمنعهن من الجلوس حتى تسع أكثر ما يمكن من النساء واقفات.

سرعان ما نسيت النسوة أمر الجارة التي تخلفت وانخرطن في سرد حكاياهن والثرثرة والتلاسن والأجساد تتمايل وتهتز مع كل منعرج ومطب والشاحنة تئن بحملها الثقيل تكاد تتوقف عند كل مرتفع و تنطلق كسهم في المنحدرات.

عند أحد المنحدرات الخطرة فقد السائق السيطرة على الشاحنة فتطوحت بين الطابية والطابية وتكدست الأجساد وماجت ذات اليمين وذات الشمال، أشاحت الشمس بوجهها عن المشهد وصمت السماء أذنيها عن الاستغاثة والعويل وانطلقت الشاحنة إلى الهاوية كصخرة متدحرجة. انحنت زينة تحمي جسدها النحيل بين الأجساد وكان ماء دافئا ينساب فوق رأسها الذي غرزته بين فخذي إحداهن، وأمام عينيها يمر كحلم شريط حياتها، رأتها طفلة حافية شعثاء شقية الطفولة، رأتها شابة مقتولة المشاعر، رأتها عروسا تساق في كفنها لشقاء آخر، رأت طفلها يعود من مدرسته مقهورا، رأت طفلتها تجر حذاءها الصيفي في وحل الطريق، رأت نورا ساطعا و بياض وغامت الوجوه والأشياء…

في المساء

في نشرة الأخبار

بين خبري وعكة سلطانة الطرب

وموت قطة سيدة أمريكية بسبب الإعصار

قالت القارئة ذات العيون الوقحة

باختصار

حادث أليم يؤدي بحياة بعض العاملات

في قرية لم يردنا اسمها مع الخبر

قرية من مداشر الغبار باختصار


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي