معركة بن سدرين: الجمل وصفّين والعُقاب والزلاّقة!!!

25 مارس 2018

غبيّ وساذج ومتخلّف ذهنيا (كلّ معني يختار ما يليق به) من يعتقد أّنّ موازين القوى في «مجلس نوّاب الشعب» قادرة على حسم الخلاف/الاختلاف بشأن أيّ مسألة خلافيّة وخاصّة ما يهمّ «هيئة الحقيقة والكرامة» لأمرين:

أوّلا: منذ أوّل مجلس تشريعي منتخب بعد الاستقلال، لم تلعب هذه السلطة الدور المناط بعهدتها (دستوريّا على الأقل) وبقيت المجالس التشريعيّة والتأسيسيّة المنتخبة مجرّد «صندوق صدى» لما يريده الفاعلون الحقيقيون على المشهد السياسي، ودليل ذلك، سرعة ويسر الاستعاضة عن «المجلس التأسيس» بما سمّي «الحوار الوطني» دون أن تبدى أعلى سلطة تأسيسيّة منتخبة مقاومة تُذكر، إلاّ من بعض الأفراد، الذين جاءت مقاومتهم من باب رفع العتب لا أكثر. بل أكثر من ذلك تحوّل «التأسيسيون» إلى مجرّد أذن تسمع ما تقرّر ضمن الحوار، وفم يعيد في أمانة ما جاء من تعليمات إلى هذه الأذن…

ثانيا: قطاعات متزايدة من العمق الشعبي، صارت ترى «وجود» هذه الهيئة من وجودها، ومن ثمّة لا «شرعية» مجلس نوّاب الشعب، ولا أيّ سلطة أخرى قادرة على افهام، هذا العمق الشعبي بمعنى الاقناع، أنّ حلّ هذه الهيئة «قانوني» (مهما كانت المرجعيات التشريعيّة).

بالمحصّل تعيش البلاد وفق «قانون الغاب» المعدّل بما تستدعيه لزوميّات صناعة الصورة الديمقراطيّة، على اعتبارها الضرورة الشرطيّة لقيام «العقد الاجتماعي»، وكذلك تعيش البلاد حالا من «التسيّب» تجعل من هبّ وأراد يستطيع الحلم بأن يكون له من السلطة نصيب، سواء هو الصراع المخجل في (ما يسمّى) «مجلس نوّاب الشعب» أو هو الشارع الذي سيصله العنف الشامل، في حال واصل «نوّاب الشعب» تقديم العنف (وإن كان لفظيّا في غالبيته) في صورة الوسيلة الفضلى لتصريف الخلافات السياسيّة.

عملت الجهة التي تسلّمت مقاليد البلاد منذ عشيّة 14 جانفي 2011، على محو الفواصل بين كلّ من «الثورة» وما تمثّل من «رأسمال رمزي»، مقابل «النظام السابق/الثورة المضاة» وما تحمل هي الأخرى وما تحيل عليه من رمزيّة، لنصل إلى المشهد القائم راهنًا على صورتين في الظاهر متناقضتين لكنّها متكاملتين: لا وجود لمن يستحقّون لقب «الثوّار» ولا وجود كذلك لمن يمكن أن نطلق عليهم «الأزلام». ضاع الأوائل بفعل السذاجة والغباء والعجز عن قراءة المشهد، في عتمة سياسة قبلوا بها دون مسك أسرارها، وتخفّى الصنف الثاني (أيّ الأزلام) خلف ذات السياسة التي ليس فقط يتقنون تفاصيلها، بل هم من قاموا بتطريزها.

جاءت سهام بن سدرين، لتركل هذين الصورتين، في الآن معا، بل لتقدم من الدلائل ما حطّم هذه «السياسة» التي أطفأت «الثوّار» وأخفت «الأزلام»، ومن ثمّة صرخت في القوم بأنّ «دولة الاستقلال» قامت على «باطل». علمًا وأنّ فعل التجاوز وتحطيم «مقدّسات دولة الاستقلال» لا تهمّ في صحّته أو عدم الصحّة لسببين:

أوّلا: أنّ من يرغبون في تصديقها يحملون ضغينة ضدّ «دولة الاستقلال» (هذه) وهم على استعداد لتصديق الشيطان ذاته، في حال شهد ضدّ هذه «الدولة» وضدّ مؤسّسها الحبيب بورقيبة.

ثانيا: من تصدّوا لها، لا يدافعون عن «الحقيقة» (النقيض لما قدّمته بن سدرين) بمعنى الصواب، بل هو يذودون عن مصالح وعقيدة، حملوها منذ الصغر في صورة المقدّس أوّلا، وكذلك هم في صورة الفسطاط الجامع والحامي ليس لما هي مصالحهم، بل لديمومة «الدولة» التي تبيض ذهبًا لمن شاءت وتنثر دنانيرها الرنّانة على من تريد…

Tortureضمن هذه المعركة، لا يعترف ولن يعترف أيّ طرف بأّيّ «نصر قانوني» يقول هذا الطرف أو ذاك أنّه حققّه، بل لدى هذا الطرف أو ذلك من الاستعداد والرغبة والتوق، لحسم الأمر في الشارع، من خلال «العنف»، لأنّ مفهوم «الدولة» (المحتكرة للسلاح واستعمال العنف نظرييّا) لدى كلّ منهما يناقض الطرف المقابل وجوديّا. لذلك يأتي دور سهام بن سدرين لدى «الفئة الغاضبة» أشبه بما يكون «المغنطيس» القادر على فرز «الأخيار» [أيّ هم] عن «الأشرار» [الطرف المقابل]، وكذلك القادر (وهذا الأهمّ)، على جمعهم تحت راية واحدة، خاصّة وأنّهم يرون أنفسهم يتامى بل أشبه بمواطنين من درجة سفلى، على شاكلة «عبيد روما» حين جاءهم من ألهب الثورة في أفئدتهم… حين توارت القيادات (المسمّاة) «ثوريّة»، أو هي عاجزة عن فهم متطلبات «السوق السياسيّة» أو هي انخرطت ضمن سيل الراكضين خلف وهج اعلامي ديدنه تقزيمهم ومن ثمّة اجتذاذهم…

لا تهمّ النهاية (ضمن المعنى الفرجوي) لمعركة بن سدرين، مع «الدولة العميقة»، لأنّ الطرف المناصر لهذه المرأة اعتاد الهزائم، وأهمّ من ذلك اعتاد الصبر عليها، لكثرة حالات الخذلان، بل الخيانات بين صفوفه، حين تتقن «الدولة العميقة» حدّ التفنّن، لعبة إغواء، من يدّعون «خطاب الثورة»، جلبهم إلى صفوفها…

خطورة «وثائق» سهام بن سدرين وشلال الصراعات الذي فتحته، أنّها رحلت بجبهات الصراع من أبعاد أيديولوجيّة مزمنة، أقرب إلى الالهاء بمعارك تخصّ الموقف من الدين وشعائره وأحكامه، مثل قسمة الميراث، إلى معركة «شرعية الدولة القائمة» على اعتبارها الوريث والامتداد لدولة «الاستقلال الداخلي». لذلك وبسببه جاء العنف شديدا، داخل «مجلس نوّاب الشعب»، بين طيف ذكيّ فهم أنّ الاصطفاف وراء بن سدرين مفيد، في حين دافع نوّاب «الدولة العميقة» عن وجود دولتهم ومن ثّمة وجودهم. في حين [كما يقول المعرّي] بقي المترددون في سقيفة جهنّم.

لن تندلع ثورة جديدة ولا قدرة ولا رغبة ولا طاقة لسهام بن سدرين، في تزّعم جبهة «الصراع الوجودي»، لأنّها تعلم أنّ الطرف المقابل مارس العنف الشديد وحتّى القتل والإبادة، زمن بن بورقيبة وزمن بن علي، وفي كلّ الأزمة، من أجل رهانات أقلّ خطورة. كما تعلم سهام بن سدرين، وهي تتقن ذلك، أّنّ المعطى الاقليمي والدولي، صار أقرب إلى حَكَمٍ لمقابلات الملاكمة/المصارعة التي تجري في البلاد، وفق القواعد التي يحدّدها هذا الحكم، ومن ثّمة يحتاج هذا الحكم أن تذهب «العدالة الانتقاليّة» في صيغتها المشوّهة إلى منتهاها، ويحتاج كذلك إلى «بنية التوافق» الضروريّة لمسك البلاد في هذا الظرف بالذات. لذلك، لن تسقط «هيئة الحقيقة والكرامة»، ولن تسقط هذه الدولة القائمة وريثة دولة الاستقلال بفعل «وثائق سهام». فقط هي مباراة ملاكمة/مصارعة، قد يسقط خلالها بعض الضحايا، ويغادرون الحلبة. تلك قواعد اللعبة ذاتها منذ ألقى منداس فرنس خطبته الشهيرة، أمام الأمين باي…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي