«معسكرات لتحفيظ القرآن» : من سيدفع الحساب ؟

3 يناير 2023

هناك خيط رفيع وحدود جدّ دقيقة، على المستوى الأمني وبالأخصّ كلّ ما يتعلّق بما يُسمّى «الإرهاب»، بين ترك الحبل على الغارب وعدم ضبط الأمور، من ناحية، ومن ناحية أخرى السقوط في أصناف من الهوس الذي يجمع كلّ من تحرّك ضمن الخانة ذاتها.

أولّ حروب «الإرهاب» هي حرب المفاهيم، التي تأتي على قدر كبير من الأهميّة، بل يمكن الجزم أنّ الذي يلزم الأخرين بالتوصيفات التي يعتمدها، يكون (على الأقلّ) ربح ثُلث المعركة ومن ثمّة كسب أسبقيّة ترفع من حظوظه لاحقًا.

إحدى المهام الأولى لأيّ جهاز مكلّف بمعالجة مسألة «الإرهاب»، والأمر أبعد من مجرّد التصدّي الأمني/العسكري، تكمن في الإصرار على اعتماد المفاهيم الذي يضعها العقل الجمعي، أي في تعاون (بالترتيب) مع جهاز التربية والتعليم، الإعلام والثقافة والفنون، ليأتي إثر ذلك البعد الأمني/العسكري/المخابراتي ليلعب دور شبكة الصيد الأخيرة في مواجهة جميع مظاهر الإرهاب.

عندما تصدر صحيفة يوميّة تدّعي أنّها «الأوسع انتشارًا» بعنوان كبير على الصفحة الأولى، يتحدّث عن «معسكرات لتحفيظ القرآن الكريم»، مع ما يحيل عليه لفظ «معسكر» من عنف مسلّح، فالأمر بكلّ المقاييس (دون السقوط في «نظريّة المؤامرة») يتجاوز مجرّد «اجتهاد صحفي» (بمعنى كاتب المقال) وأيضًا المشرف على القسم، وصولا إلى رئيس التحرير، وربّما (ونقول ربّما) صاحبة الصحيفة.

أيضًا وجب الاعتراف أنّ الأمر متجاوز لهذه «الحادثة»، ليتعلّق الأمر بسياقات كاملة تخصّ مجمل طبقات الإعلام في تونس، حين يغيب «الخط التحريري» الواضح الذي من مهامه، توحيد المفاهيم عند التوصيف، فلا يمكن (مثلاً) لصحفي ما أن يتحدّث عن «سقوط شهيد فلسطيني» في حين يتحدّث زميل له من ذات الوسيلة الاعلاميّة عن «سقوط قتيل فلسطيني»…

في وسائل الاعلام المحترمة (الأنجلوسكسونية خاصّة)، تمكين أيّ صحفي يلتحق بها من كتيّب يحتوي جميع التوصيفات المعتمدة. مثلا قناة «الجزيرة» تعتمد توصيف «ما يُسمّى جيش القبائل في ليبيا» وبالتالي يرتكب خطأ مهنيّا فادحًا من لا يعتمد هذا التوصيف.

عند توسيع الرؤية في بلد يحمل عدد غير قليل من الصحفيين «رئيس تحريره» في عقله، وكذلك تعمل وسيلة الاعلام التي يشتغل فيها هذا الصحفي وفق «خطّ تحرير» معيّن، يكون طبيعيّا جدّا أن يتمّ الحديث عن «معسكرات لتحفيظ القرآن»…

في مناخ التسيّب الإعلامي الذي تعيشه البلاد (الذي لا علاقة له بما هي «الحريّة») لا أحد يملك رسمًا دقيقًا للحدود الفاصلة بين الممكن والمقبول من ناحية، وما هو مرفوض وممنوع، من ناحية أخرى، سواء على المستوى الأخلاق العامّة أو المهنيّة، أو القوانين الجاري بها العمل، وحتّى جملة القواعد العامّة التي ينصّ عليها «ميثاق الشرف» الذي يحتلّ قفا بطاقة العضويّة التي توزّعها النقابة الوطنيّة للصحفيين.

كلّ يدّعي ويتصرّف (في مجال الإعلام) كأنّ لا أخلاق تضبط ولا قوانين تحدّد ولا مرجعيّات تفصل، بل الجميع (تقريبًا) يتصرّف وفق أهوائه ووفق الأجندة السياسيّة التي ينخرط فيها صحبة وسيلة الاعلام التي ينتمي إليها، أو في أدناه يتقاطع معها.

خطورة هذا «التوصيف» (أيّ معسكرات لتحفيظ القرآن) بفعل تراكمات السنين وبفعل «الصمت الرسمي» و«عدم الاكتراث» الإعلامي، أنّه تصدم القناعة الدينيّة لنسبة غير هيّنة من التونسيين، وبالتالي هذا الطيف من المواطنين يرى نفسه «مطعونًا» في إيمانه، عندما يرى «الصحيفة الأوسع انتشارًا» تعتمد مثل هذا التوصيف، حين وجب التفريق في جلاء بين كبرى وسائل الإعلام من ناحية، مقابل صفحة طائشة مجهولة الهويّة على صفحات التواصل الاجتماعي.

تتحمّل الدولة بمعناها الواسع المسؤوليّة الأكبر والأخطر، حين لم تؤسّس لمنهاج واضح لمحاربة الإرهاب، حين صار الاكتفاء بما تملك وزارة الداخليّة بشقيها «الأمن العام» و«الحرس الوطني»، وكذلك وزارة الدفاع، حين لا يمكن لهذين الوزارتين سوى لعب دور «حارس المرمى» أيّ «خطّ الدفاع الأخير» ضدّ الإرهاب،ـ علمًا (وفق أبسط قواعد كرة القدم) يستحيل على أعتى حرّاس المرمى (في كرة القدم كما الإرهاب) ضمان قاعدة «صفر هدف»، فما بالك، حين يحسّ الطيف الأوسع من الشعب التونسي أنّه مطعون في إيمانه.

عوّل هذا العمق الشعبي في جانب غير هيّن منه، على حركة النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ومدّها بكمّ هائل من الأصوات (صار حلمًا وانقضى راهنًا) لسبب بسيط أنّ مرجعيتها «دينيّة»، علمًا وأنّ الدين ضمن هذا المعنى لا علاقة له بما هو «الإسلام السياسي» (المعروف)، بل فقط يصرّ «الإسلام الاجتماعي» (أي العمق الشعبي المتديّن بالفطرة) على تمكين السلطة إلى من يحفظون الدين فيه بعده العقدي، وثانيا يتّصفون بالأمانة التي تجعل الاقتصاد ينمو وتتحسّن معها الوضع الاجتماعي لهذه الغالبيّة.

عجز النهضة والقراءة السطحيّة جدا التي اعتمدتها لقراءة هذا «التفويض الشعبي» وأساسًا إصرارها «المرضي» على التخلّص من صفة «الإسلام السياسي» ودفعت من أجل ذلك أموالا طائلة لمن نصح «الشيخ التكتاك» بارتداء ربطة عنق، وأيضًا (وهذا الأخطر) فشلها في مقاومة الفساد، بل هي طبّعت معه و(في رواية أخرى) صارت ركنًا من أركانه، خلّف فراغًا على كبيرًا على مستوى «حماية الدين»، ليكون بروز «ائتلاف الكرامة» لحمل «راية الدين» في البلاد، فكان عجز ثان تراكم فوق عجز النهضة.

الارتفاع المتسارع في نسبة الفقر، واحساس جانب متزايد من العمق الشعب بعجز الطبقة السياسة عن الوفاء بالحدّ الأدنى من الأمن والرخاء (قيس سعيّد يتساوى لديهم مع قيس سعيّد) يفسّر في جزء كبير منه تراجع نسب التصويت في الاستفتاء على الدستور وأيضًا (وأساسًا) الدور الأوّل من الانتخابات التشريعيّة.

عندما نضيف إلى هذا الوتر الحسّاس «الطعن في المقدّسات الدينيّة»، يمكن حينها لأيّ جهة العزف على وتر الإرهاب في تونس، لأنّ «الجهل» المستشري معطوفا على «الخوف» المزمن، يقودان إلى العنف، سواء كان ذلك «حرقة» على قارب مهترٍ، أو الجريمة في أبغض أشكالها، أو (الأخطر) «الإرهاب» المتدثّر بالدين….

عندها يمكن للصحفي المعني أنّ يتحدّث عن «معسكرات » إرهابيّة في البلاد، ما دام البوليس والحرس والعسكري سيدفعون الثمن بدلا عنه…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي