من ألمانيا إلى زمبابوي: الأزمة الحلوة ومرارة المأزق…

20 نوفمبر 2017

تعيش دولة ألمانيا الاتحاديّة أزمة حادّة عصفت أو تكاد بأيّ فرصة لتشكيل حكومة ائتلافيّة، حين لم تمكّن نتائج الانتخابات التشريعيّة الفارطة أي حزب من أغلبيّة أو سيطرة، وكذلك رفعت الأحزاب الصغيرة سقف مطالبها وقايضت وجودها بشروط تعجيزيّة، ممّا قد يدفع البلاد إلى انتخابات تشريعيّة سابقة لأوانها…

في القسم الجنوبي من الكرة الأرضيّة تعيش دولة زمبابوي أزمة هي الأخرى، محورها وجود «الزعيم» موغابي في «الملك» وهو الذي استفرد بالتفكير والقرار لفترة تزيد عن ثلاثين سنة، وجعل البلد والعباد في خيار بين الطاعة أو السجن والقتل، أو هي المغادرة إلى المنافي والشتات. هرم «الأسد العجوز»، فخرجت «الضباع» تريد مكانه وملكه وما يوفّر من سلطة ونفوذ وما يعطي من سطوة وسلطان..

في الحالتين، نقف أمام «مجهول»، أيّ عدم القدرة على الجزم بما ستؤول إليه الأمر، سواء في ألمانيا، أين يمكن (ونقول يمكن)، أن يتراجع حزب من الأحزاب عن عناده، ومن ثمّة يمكن (في اللحظات الأخيرة) تشكيل «الحكومة المعجزة»، كما في زمبابوي، أين يمكن (ونقول يمكن)، أن يتراجع أحد «الضباع» عن طلب «الحكم» أو نصيب منه.

لكن رغم الحديث عن «أزمة» في الحالتين، والعجز عن الجزم بالسيناريو القادم، حين يمكن الجزم بوجود خيارات ممكنة،  بين أمرين:

أوّلا: الأزمة في ألمانيا، رغم حدّتها بل شدّة الصدام (الكلامي) بين الأطراف التي تتفاوض بغية تشكيل الحكومة، تبقى محكومة بالضوابط الدستوريّة شديدة الوضوح والقادرة على الإجابة عن جميع الاحتمالات الممكنة والمتخيَّلة، في حين كان الوضع في دولة زمبابوي ولا يزال، مفتوحًا على الاحتمالات جميعها، ممّا يمكن التفكير فيه واعتباره ممكنًا وطبيعيّا (في أفق الاستشراف) أو ما هو خارج «المقبول»، بأن يصير الوضع في هذه البلاد، بل يذهب وينزل نحو السيناريو الصومالي أو الوضع القائم في أفغانستان.

ثانيا: الأزمة في ألمانيا، أزمة قناعات سواء منها الأيديولوجيّة بمعنى الأفكار التي يتأسّس عليها ويقوم الفكر السياسي، أو هي الخيارات السياسيّة في علاقة بمتطلبات البلاد وحاجات العباد، سواء على المستوى الاقتصادي أو (وهي إحدى النقاط الصعبة) العلاقة مع «المهاجرين»، وخصوصًا، العدد الممكن قبوله سنويّا، أو حقّ المهاجر في جلب بقيّة أفراد عائلته، في حين أنّ الأزمة في زمبابوي، أزمة «شهيّة مفتوحة» من جميع «الضباع»، حين يريد كلّ «ضبع» ليس فقط الاستفراد بالحكم ومواصلة المسك بمقاليد البلاد ومقدراتها كما كان يفعل «الأسد العجوز»، بل «استئصال» المناوئين والقضاء عليهم، كما يفعل الأسد الذي يقتل نظيره ويستولي على «حريمه»…

المواطنون في البلدين، مع الاعتراف بأنّ لفظ «مواطن» لا يتوافق مع الحال في زمبابوي، يعيشون الأزمة بطريقة جدّ مختلفة. في ألمانيا، هناك بالتأكيد «مرارة» لدى عمق هذا الشعب، الذي يريد دولته والوضع فيها في أحسن حال، ومن ثمّة يكون الانزعاج من الذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها، مع التأكيد على وجود مَنْ مِنَ الألمان يريد الذهاب إلى هذه الانتخابات، لرغبة أو يقين بالقدرة على تحقيق نسبة أرفع (لحزبه) في الانتخابات المقبلة. في حين يبقى العمق الشعبي في زمبابوي أمام الخوف/الرعب من قادم الأيّام، سواء من باب الخوف بخصوص «الوضع الأمني» المباشر أو الوضع العام للبلاد، دون أن ننسى «المعركة اليومية» (أشبه بحال سيزيف) من أجل «لقمة العيش»….

دول الجوار في الحالتين تنظر إلى الوضع في هذا البلد أو ذاك، بعين مترقبة لما ستؤول إليه الأوضاع. أوروبا، الدول والنظام الاتحادي، حين تؤثّر «الشقيقة الكبرى» في مجمل الحال الأوروبي، سواء على مستوى الخيارات الكبرى (موضوع الخلافات الحزبيّة) أو القرارات بخصوص الخيارات السياسيّة الحاسمة، سواء القرار بخصوص البيئة والمحيط، أو وضع اليورو وتأثير الأمر على الدول الأوروبيّة. في حين تتراوح الدول المحيطة بدولة زمبابوي بين من يريد الاستفادة من هذا «الانتقال» ودفعه في الاتجاه الذي يخدم مصالحه، وبين الخوف/الرعب من أن تذهب الأوضاع نحو الأسوأ، وصولا (ربّما) إلى نصب الخيام وانشاء المخيّمات، في حال ذهبت البلاد نحو «الخيار الصومالي»…

فارق أخر يميّز بين يفصل بين الحالتين، أو هما من عالمين لا رابط بينهما: دولة ألمانيا الاتحاديّة، ذات سيادة، ولا يمكن أن نتخيّل أيّا من الفاعلين ضمن المشهد في هذا البلد، يطلب النصح أو المشورة من «جهة خارج البلاد»، في حين أنّ الوضع في زمبابوي مفتوح أمام جميع الدول المحيطة والمنتمية إلى المنطقة أو هي الدول العظمى التي تريد أن تصفّى حسابا قديمًا قدم الحرب البادرة مع «الأسد العجوز» موغابي…

Merkelحين نوسّع الرؤية ونضع المعادلتين ضمن نسق اقليمي ودولي، يمكن الجزم بوجود «جهات أجنبيّة» تحاول اللعب، سواء في ألمانيا، بين المعسكرين المتنافسين، أي أمريكا وروسيا، وما هو تأثير الخيارات في هذا البلد على مجمل التوازنات القائمة/القادمة الاقليميّة أو العالمية، لكن الألمان يأتون في وضع «الشريك/الفاعل» ضمن هذه الجدليّة، في حين تأتي الصراعات في زمبابوي من أجل السلطة وحول الحكم، في إحدى صورها، ملخّص الصراع القائم بين الصين في مقابل المعسكر الغربي والولايات المتحدة بشكل خاص، حين مكّنت الصين «الأسد العجوز» من شروط البقاء أو هو التنفس الاصطناعي رغم انهار الاقتصاد وانحدار العملية المحليّة إلى درك لا شبيه له في أيّ اقتصاد…

توسيعًا لدائرة الرؤية أبعد من ألمانيا وأعمق من زمبابوي، يمكن الجزم، «خارج نظريّة المؤامرة،» حين تمثّل «المؤامرة» إحدى أوجه التاريخ الممكنة وليس التفسير الأوحد له، أنّ «الدولة المتخلّفة» تحمل بذور التخلّف في ذاتها، أوّلا. ثانيا، ليس مهمّة «الدولة المتقدّمة» أن تحمل وزر مثيلاتها المتخلفّة أو أن تعلن نفسها وصيّة على «الديمقراطيّة»، لنرى المشهد/الأزمة متراوحة بين نقيضين يلتقيان عند التشريع للمأساة: إمّا القبول بما هي «الدكتاتوريّة الوطنيّة» من باب رفض «التدخّل الخارجي»، في مقابل البحث والسعي أو هو الركض خلف «رافعات الديمقراطية»، و«حاملات حقوق الانسان» من الخارج، من باب أنّ الغاية تبرّر وتشرّع للوسائل جميعها، سواء منها القادرة على «قلب النظام» أو ممارسة الحدّ الأدنى من «الانتقام» الغرائزي من هذه «الدكتاتوريات الوطنيّة»….


تعليق واحد

  1. ملاحظ تونسي

    إنطلاقا من اشكالية خاتمتكم،
    السؤال الأهم في نظري ، في ما سبق وما سيلحق هو :
    أيهما أهم وأولى ( بمعنى أكثر أهميية في سياق الأهم و أكثر أولوية في سياق الأولى ) ، بين ‘استقلالية’ القرار الوطني ( ولو نسبية) ودخول نادي الدول الديمقراطية (على الطريقة الغربية بيعيوبيها ولو تشبهاً أو على الطريقة التونسية بزيفها ولو تقليداً ).
    شكلت هذه الثنائية أحد أركان محاججات الأنظمة الدكتاتورية ومعارضيها :
    فتواصل وتفاعل وتعاون ( بفتح الصاد والعين والواو) مناوئو الأنظمة الشمولية مع حكومات الخارج والمنظمات الدولية من «رافعات الديمقراطية»، و«حاملات حقوق الانسان» بالصادقة منها نسبيا وما اقلها والمتاجرة ببراءة الإختراع وما أكثرها …يبرر هولاء “تخابرهم” ننبل الغاية جهراً و-برغبة انتقامية في إطار غريزة الحقد …
    في المقابل صورت الطغمة (بمعنى junte) الحاكمة تواصل معارضيها مع الخارج بالخيانة الموصوفة وشكل إستنجاد خصومها بالخارج مادةً دسمة لاتهامهم بالعمالة … هذا السلوك يستبطن نظرياً فكرة أن هذه الأنظمة حريصة على كرامة أوطانها ولكن أبسط الملاحظين يعلم أن حرصهم لا يتجاوز بقاء كراسيهم وأن كل أشكال الخنوع والخضوع مشروعة في سبيل غريزة السلطة…
    يبقى السيد الأبيض أمام هذه الثنائية أشبه -قائد فرقة موسيقية ( Chef d’orchestre) يضبط الايقاع حسب مصالحه ويطوع أصله التجاري ( بمعنى Fond de commerce) في الديمقراطية مع موجة المتغيرات الطارئة مرةً وموجات البرامج القائمة بضع مرات وأمواج الظغوط المبتزة مراراً…
    لاشك أن معضم ( إلى حدود الكل) التحولات والثوررات تاريخياً استفادت من تحالفات خارجية ومساعدات تاتي لغايات مرتبطة بمصالح المساند ( بكسر النون ) أخذاً بالمثل “ما فماش قطوس يصطاد لربي” ولكن من واجب المساند ( بفتح النون ) تحديد خطوط “تعاونه” الحمراء و لا يكون ذلك إلا بأن يكون نضال هذا الأخير ” صاحب روية وطنية تبلغ حد الحكم لا صاحب شهوةٍ سياسيا لا تتعدى حدود الحكم ” على حد تعبير ( وللمفارقة) أحد الذين رهنوا أنفسهم لأعداء بلدهم حد الفناء.

error: !!!تنبيه: المحتوى محمي