من ائتلاف الكرامة إلى قيس سعيّد : الاحتلال ليس كرة لتسجيل الأهداف….

26 يونيو 2020

قامت الحملة العسكريّة التي أقدم عليها إسكندر المقدوني وقادته إلى الهند وأفغانستان وغيرهما على القواعد التالية التي لا تزال راسخة في الوعي الغربي إلى يوم الناس هذا :

أوّلا : استكشاف أقصى ما يمكن من مساحة الأرض، والتعرّف على خصائص الأوطان (الخيرات بجميع أصنافها) ومميّزات الشعوب ومن ثمّة بناء منظومات معرفيّة، تضع هذه «العلوم» في خدمة القرار السياسي وخاصّة العمل العسكري، وما يهدفان إليه من السيطرة على مقدّرات هذه البلدان.

ثانيا : إعادة بناء الوعي في هذه البلدان بعلويّة «الرجل الأبيض» بذاته (لأنّه الأفضل بين الأجناس جميعها) أو بمعارفه، حين اعتقد الإغريق وأسّسوا لفكرة أنّهم ليس فقط «سادة العلم» بل (أخطر من ذلك) من يتولّى تحديد المجالات التي على العلم أن يتخذها بحثا واستكشافًا.

ثالثًا : وجد إسكندر المقدوني أو بالأحرى أوجد من المسوّغات الأخلاقيّة، حين وجب أن ينخرط كلّ هذا التوسّع تحت شعار أخلاقي، ما برّر إبادة من أباد، على اعتبار أنّ ما هو خارج «مجال المعرفة» هو مجال غير موجود، وبمجرّد «التعرّف» على هذا الجديد، يصبح مجالا للاستكشاف وموضوعًا للتطويع، ومجرّد حلقة ضمن مجال توسّع الإنسان الأبيض.

splash_0طوّر الرومان هذه الفلسفة وعمدوا إلى السيف ليس فقط للسيطرة على البلدان والتحكّم في خيراتها، بل (وهذا الأخطر) على جرّ سكّان المستعمرات لتبنّى اللغة اللاتينيّة والملابس الرومانيّة مع كلّ مقوّمات الحياة المعتمدة في رومة حينها. من أبى واستنكر ذلك، كان السيف نصيبه، علمًا الجيش الروماني أباد في معركة واحدة ما قال المؤرخون حينها أنّهم رُبع مليون فرد من القنابل الجرمانيّة في يوم واحد. أكّدت عديد الشهادات حينها أنّ رائحة الجيف وصلت إلى أبعاد من مئة كيلومتر.

 

الإسبان طوّروا الاحتلال وقد جعلوا للاحتلال العسكري قواعد ثلاث :

أوّلا : الجيش الذي تكمن مهمّته في السيطرة على الأرض واحكام القبضة على السكّان أو قتل كلّ من أبدى مقاومة، بل تمّت عمليات إبادة لقبائل لم تبد أيّ مقاومة، بل من أجل لذّة القتل ذاتها. من الكذب الذي روّج لها الرجل الأبيض في هذا المجال أنّ السكّان الأصليين كانوا ينزعون فروة رأس الموتى من أعدائهم، والحقيقة أنّ هذه الممارسة إيرلنديّة أصل ومارستها قبائل معدودة جدّا من السكّان الأصليين.

ثانيا : العالِم القادر على دراسة البلاد والعباد، والخروج بخلاصات، تؤكّد علويّة الإنسان الغربي على هذه الشعوب، ممّا يؤهله للسيطرة عليها والتحكّم فيها. علم الأنثروبولوجيا هذا، كان ولا يزال مخصّصا لدراسة «غير الإنسان الأبيض»، بما في ذلك سكّان الضواحي في المدن الأوروبيّة مثلا، من أصول عربية وافريقيّة وعامّة من خارج المنظومة الغربيّة، على اعتبار أنّ هذه الفئات «العرقيّة» رافضة/عاجزة عن الاندماج وتبقى على انتمائها إلى «موطن الاباء والأجداد رغم أنّها تقف على جغرافيا أوروبيّة.

ثالثًا : جميع الحملات العسكريّة التي قادتها اسبانيا على القارة الجديدة، حملت في صفوفها رجال دين مسيحيين، ليس فقط لتأمين الشعائر للجنود وقيادة الحملة، بل كذلك (وهنا الأهميّة) تنصير السكّان الذين تمّ تطويعهم وقطع كلّ الأواصر التي تجمعهم بعمقهم الحضاري والثقافي عامة والديني على وجه الخصوص. كثير من الرهبان شرّعوا قتل من لا يريد التحوّل إلى النصرانيّة، بتعلّة أنّ الموت يخلّص هذه الأجساد من الأرواح الشريرة التي فيها.

هذه القارة الجديدة، التي حملت اسم أمريكا نسبة إلى المستكشف الإيطالي أمريغو فاسبوتشي Amerigo Vespucci الذي أثبت بعد رحلة بحريّة من أقصى شمالها إلى أدنى جنوبها، عرفت أبشع جرائم الإبادة البشريّة، علمًا وأنّ الدفعات البشريّة الأولى التي تركت أوروبا من بريطانيا وهولندا على وجه الخصوص، كانت طوال الرحلة في البحر تطالع العهد القديم وتردّد أنّها تقصد «أرض كنعان» ومن ثمّة يجوز (من منظور ديني بحت) إبادة كلّ شعب أو قبيلة ترفض التخلّي عمّا بين أيديها من أراض وخيرات، لأن هذه «الأرض» موعود لهم بحكم نصّ توراتي.

2e86ba53ea9e63d2f10e947a2ccec568الاحتلال العسكري للجزائري، مع بعض الاختلافات المتأتية من تباينات ثقافيّة مع الرصيد الثقافي الأنغليكاني، ذهب في الاتجاه ذاته، وكان منذ أن نزل أوّل جندي فرنسي برجله على شواطئ سيدي فرج، يعتزم السيطرة على البلاد واستعباد السكّان، بل تجاوزت الغاية ذلك، إلى اعتماد احتلال استيطاني بمعنى تعويض السكّان الأصليين بوافدين من فرنسا خاصّة وكذلك من الفضاء الغربي عامّة.

عمليّة السيطرة هذه لقت مقاومة شاملة وعنيفة، وتمّ اتخاذ القرار بالشروع في حرب إبادة القبائل المتمرّدة، فكان يتمّ اشعال النيران في الكهوف التي لجأ إليها السكّان، لتموت أعداد كبيرة جدّا بين الحرق والاختناق، وقد قدّرت مصادر فرنسيّة أن بين تاريخ الشروع في الاحتلال (1830 ميلادي) إلى حين اكتمال السيطرة على الجزائر (1900 ميلادي) أباد الاحتلال الفرنسي ثلث الشعبي الجزائري، أيّ ما يتراوح وفق أقلّ التقديرات بين مليونين ونصف مليون إلى ثلاثة ملايين ساكن، وتمّ تهجير ثلث كذلك عن أجود الأراضي وأكثرها خصوبة وإحلال أوروبيين محلّهم.

لذلك التمييز بين الاحتلال المباشر بهدف الاستيطان المباشر كما كان في الجزائر، من ناحية، مقابل «نظام الحماية» الذي عرفته تونس، حيث تمّ الاحتفاظ بشكل ظاهر للدولة التونسيّة ممثلة في السلطة التنفيذيّة التي يقف على رأسها الباي، مرفوضة من منظور أخلاقي وسياسي، لأنّ الاحتلال يمثّل صورة من صور الاغتصاب، ومن ثمّة لا يمكن أخلاقيا التمييز بين فعل الاغتصاب الذي لم يتجاوز التقبيل ولمس الأماكن الحسّاسة دون علاقة مكتملة، عن اغتصاب تمكّن من خلاله الجاني من إقامة علاقة كاملة، مكتملة الأركان.

فقط وحصرًا تهمّ الفوارق بين شكلي الاغتصاب علماء التاريخ الذين من حقّهم ومن واجبهم التمييز معرفيا والتدقيق في المعلومات، لاختلاف التبعات والنتائج بين الشكلين، أشبه بالطبّ الشرعي الذي من واجبه تعريف درجات الاغتصاب لتمكين القضاء من معرفة تامّة بأركان الجريمة، وليس من مهامه نفي صفة الاغتصاب عمّن عجز عن الوصول إلى مبتغاه كاملا.

لذلك ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيّد من نفي صفة «الاحتلال» والتأكيد على «الحماية» مقبول وحتّى محمود من قبل مرجع في القانون الدستوري، اعتاد طوال مسيرته الجامعيّة ومساره الأكاديمي، التدقيق في شدّة على مستوى المفاهيم، لكن من سوء حظّ الرجل أنّه ينسى ويغفل ويسهى ولا يعي أنّه لم يعد ذلك الأستاذ الجامعي، بل هو رأس السلطة التنفيذيّة في دولة تسمّى تونس، وبالتالي عليه أن يتصرّف مثل «رجل دولة» وينسى «غريزة الأستاذ الجامعي» المهوس بالانضباط المعرفي.

لا أحد سيعذر قيس سعيّد الذي لم يعدّل أوتاره بعد على «غريزة الرئيس» وأنّ المطلوب منه أو هو ما ينتظر الناس، لا يعدو أن يكون الموقف الذي في الآن ذاته، يتناسق مع خطابه الانتخابي ومن ناحية أخرى يعبّر عن الضمير الجمعي في تونس، حين أبادت فرنسا أعدادا غير هيّنة من المناضلين، بل من مارسوا العنف في تونس هم من ذات المدرسة العسكريّة التي تخرّج منها من أضرم النار على فوهات الكهوف ليموت الآلاف بين اختناق وحرق.

أمّا عن ائتلاف الكرامة الذي اختصر الاحتلال الفرنسي في مجرّد لائحة يتيمة تأسّست على نزوة ماتت وتمّ دفنها بمجرّد التصويت، فقد أضر ضررًا كبيرًا بالصورة التي تجب أن تكون لمن يسعون ليس فقط إلى الاعتذار وطلب التعويضات، بل إلى حركة عالميّة، تجعل من الاحتلال العسكري جريمة ضدّ الانسانيّة، تصبح أكثر من جريمة عندما يكون الاحتلال استيطانيا، تمكّن في عديد المناطق في العالم إبادة أهل الأرض والحلول مكانهم.

أولى بقيادات ائتلاف الكرامة، وهم الأحرص على إيقاف نزيف الثروات المنهوبة، أن تبحث وتؤسّس معرفيا وتؤصّل سياسيّا في استمرار لجهود عبد الرحمان الكواكبي ومالك بن النبي، عن «قابليّة الاستعمار» التي جعلت مساجدنا (جامع الزيتونة مثلا) لسنوات اسطبل خيول الإسبان، وعمّا جعل الاحتلال الفرنسي يجد من وراء الظهور من يرحّب به ولا يزال. المطلوب أفضل من طلقة يتيمة جاءت أقرب إلى تصفية حسابات مع كتل برلمانيّة أخرى إلى الفعل الجاد القائم على المراكمة البنّاءة…

الخلاصة :

على قيس سعيّد الاعتذار من ضحايا الاحتلال/الاغتصاب وإن كان تمّ داخل خيمة «الحماية»…

على قيادات ائتلاف الكرامة، دون التشكيك في نواياهم أو ترذيل مقاصدهم، الاعتذار عن هذا القذف من بعيد خارج المرمى، لأنّ مسألة «الاحتلال» أكبر من مجرّد «جوكر» يكتمل به الحساب في لعبى «رامي»…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي