من العار على النهضة أن تعاير قيس سعيّد وهو يسير على خطاها….

15 أكتوبر 2022

دخلت الأحزاب الإسلاميّة معترك الحكم من بوّابة الربيع العربي، في اتكال على «اتّفاق جنتلمان» مع الإدارة الأمريكيّة، أساسه الظاهر تزويج «الإسلام» (الاخواني) بما هي «الليبراليّة الغربيّة» بغاية إنجاب تنظيمات سياسيّة على شاكلة حزب «العدالة والتنمية» التركي، وثانيا في اتّكال على عمق شعبي غير هيّن، كفل لها أن تحتل موقع الريادة عمومًا أو هي مكانة جدّ متقدّمة في جميع الانتخابات التي فتحت أمامها الأبواب مشرّعة نحو قصور السلطة وصولجان المُلك (بمعنى الإمساك بناصية الدولة).

استراحت قطاعات واسعة من هذا الطيف من الأحزاب إلى وهن الأحزاب الأخرى أوّلا، وإلى تراجع الأحزاب ذات التوجه القومي/العروبي ثانيا، وكذلك خفوت صوت من يسمّون أنفسهم باليسار أو هي «العلمانيّة» المعطوفة على توصيفات تحتاج إلى موصوف، مثل «الحداثة» وغيرها من «التقدميّة» وحتّى «مناهضة الرجعيّة» ثالثًا، دون اغفال ذلك البُعد الإيماني بأنّ «وعد الله حقّ» الذي جاز صبرهم وأجازهم، وجعلهم «يتمكّنون في الأرض»، وفق المعنى الوارد في كتابات السيّد قطب.

سواء آمن البعض (داخل تفرعات الإخوان) بجدوى هذا «الزواج» بين «الأخونة» و«الليبرالية الغربيّة» حقّا واعتقد جازمًا بأنّ هذا الهجين سيكون أمرّ عودًا وأصلب تكوينًا من سواه، أو هو اتخذه «تقيّة»، بمعنى السباحة ضمن منطقة التقاطع بين ما هي «أصول إيمانهم» (بالمفهوم الفقهي المباشر) من جهة، مقابل ما هي مرتكزات (هذه) «الليبراليّة» في أبعادها السياسيّة المباشرة، فقد جمع بين الفئتين إحساس عميق بالاطمئنان إلى قدرتهم على القفز إلى المرتبة الأولى (جماهيريّا على الأقلّ) وضمان أحد الأمرين (بحسب الحاجة) : غلبة بصندوق الانتخابات كما تمّ في تونس وليبيا ومصر والمغرب الأقصى، أو الغلبة بالسلاح، كما كان الأمل في سورية، ما داموا لم يخرجوا عن «الخطّ الأحمر» المرسوم لهم أمريكيّا، بل على عكس من ذلك، شكّل «العم سام» شريك ديمقراطيّة لم يكونوا يتخيلون منذ سنوات أو هي أشهر معدودات، أنّها ستجعلهم سادة بعد أن ذاقوا عذابات السجون ومرارة التهجير، لسنوات طوال، وكذلك «الشريك» الذي فتح لهم «فتوى» الجمع بين «ديمقراطيّة» قحّة لا تشوبها شائبة في أوطانهم، بما هو «واجب الجهاد» في سورية حصرًا ودون أدنى توسيع أو مجرّد التفكير في جعل هذه «الفتوى» تشمل فلسطين المجاورة.

نزلت عشرات المقالات وقدّ أكّد أصحابها من أصحاب القامات المديدة ضمن الطيف الإخواني، على «شرعيّة» هذا الزواج واكتمال شروطه، بينهم وبين «الشريك الأمريكي»، وكذلك (وهنا الأهميّة والخطورة) القبول بالتدرّج في الوصول إلى «التمكين» الشامل، ما دامت الشراكة مع الطرف الأمريكي، تمكّن من بلوغ منتصف الطريق دون عناء يُذكر أو مجهود يستنزف القدرات، التي وجب الاحتفاظ بها ذخيرة، ليوم لا يعلمون موعده، بل هو موقنون بحدوثه، حين تنفذ بطاريات هذه «الديمقراطيّة» المستوردة من متاجر الغرب السياسيّة، كما نرى بوادر ذلك.

poussin5دقّ قيس سعيّد المسمار في نعش «درّة التاج» الاخواني، وقطع على هذا التنظيم (قيادة وقاعدة) امكانيّة استرجاع المكانة في مصر «المغدورة» خاصّة، وليبيا «المسروقة» والمغرب «المنكسرة»، لتكون ضربة «كش مات» في تونس، وقد صاروا بعدها أو هم عادوا «يتامى» يستذكون حكمًا مرّ أشبه بكابوس قيلولة صيف قائض : لا هم تنعّموا بحلاوة الملك، إلاّ قليلهم كرع ما استطاع، أشبه بحال علي بابا وسط مغارة الكنز، ولا هم أمّنوا على وجودهم، إلاّ قليلهم استعاد عصا الترحال والعود إلى مضاربهم التاريخيّة في ديار الكفر عند الفرنجة.

من منظور سيكولوجي بحت، من الطبيعي والمعقول والمشروع، وحتى المطلوب، العود إلى موّال «المظلوميّة» مع فارق حاسم. قبل «الزواج بالولايات المتحدة» كانوا يدافعون عن حلم، لينقلبوا بعد السقوط في كلّ من ليبيا وتونس ومصر والمغرب، إلى بكائيات أشبه بمن فقدوا «الأندلس» وهم يعلمون أنّهم غادروه دون رجعة، رغم بعض الأمل الذي لا يزال يراود خيالاتهم التائهة، من باب أنّ القنوط محرّم شرعًا.

بقدر ما تؤمّن نظريّة «المؤامرة» معطوفة على شعور أصيل بما هي «المظلوميّة» من «راحة نفسيّة» تعيدهم وتعود بهم إلى مربّع «ما قبل الربيع العربي» بقدر ما هي ارتدادات هذه «التجربة» التي دامت «عشريّة» كاملة، جعلتهم يطمئنون أنفسهم بشعار «العام القادم في السلطة» (مجدّدا) أسوة باليهود الذي يختمون صلاتهم بدعوى «العام القادم في أورشليم»، على مدى قرون وهم (قبل وعد بلفور المشؤوم) لا يعلمون لهذا الحلم من طريق. كذلك «الإخوان» وهم يسبّحون بالعود إلى «الشرعيّة»، من باب أنّ «الحلم» بالشيء أفضل من نسيانه.

ضمن الحالة التونسيّة، يأتي تشبّث النهضة وأخواتها وملحقاتها ومن هم «جرحى» قيس سعيّد، الذين فقدوا مجدا تليدا بفعل تفعيل الفصل ثمانين من دستور كتبوه بأيديهم، بما هي «الشرعيّة»، ليس فقط طلبا لحقّ (يرونه) مؤكّدا، بل (وهنا الخطورة) استعاضة عن واجب «القراءة الموضوعيّة» لعشريّة (مهما كان لونها)، يتحمّلون مسؤولية جسيمة في ما آلت إليه الأوضاع أثناءها وبعدها، بعيدًا وفي قطيعة مع هوس «الضحيّة» (عديمة الذنب) التي تمّ التضحية بها (بمفهوم الديانات البدائيّة) على مذبح آلهة باركتها الولايات المتحدة.

لذلك لا كلمة واحدة من قبل «أنصار الشرعيّة» عمّا تحقّق من «مكاسب» طوال سيادة هذه «الشرعيّة». من ثمّة يأتي مفهوم هذا اللفظ وأسلوب ترويجه وطرائق تصريفه على وسائل الإعلام، متعديا بذاته، مكتفيا بمعناه، مقصورا على دلائله «اللغويّة» وربّما «الفقهيّة» (بالمعنى القانوني للكلمة) فقط وحصرًا، دون أدنى ذكر لأي منجز اقتصادي أو مكسب اجتماعي، تؤكده الوقائع وتزكيه تلك الراحة التي تتوسّط القلوب بأنّ «الحاضر» (الثوري) أفضل بما كان «الواقع» (الدكتاتوري).

قمّة «التراجيديا» في بعدها الإغريقي الموغل في السوداويّة، أن تعطي حركة «النهضة» لذاتها شرعيّة «التعليل بالنوايا»، أيّ النوايا التي كانت هزّتهم طوال عشريّة الحكم، وما هو «عزمهم» (الكامن في ذواتهم) لتحقيق ما هي «أهداف الثورة» (المفترضة)، ومن ثمّة علينا أن نأخذ بهذه العواطف الجيّاشة بديلا عن «واقع مرّ» هم (وفق فقههم) ضحاياه، لتنعدم أيّ مسؤولية من قبلهم، وفي الوقت ذاته (وهنا منتهى «التراجيديا») يحرمون ويحرّمون على قيس سعيّد «التعليل بالنوايا» والسير على منهجم في التعاطي مع السياسة (أسوة بما كانوا يفعلون) من زاوية «فائض القيمة الأخلاقي» أيّ أنّ حركة «النهضة»، أسوة بما هو قيس سعيّد، يعتمدان «التفوّق» أو هو «التميّز» (في بعده الأخلاقي) وما يستوجب ذلك من تسليط جميع أضواء العالم على «خطايا» الأخر، «المذنب» بوجوده على الأرض قبل أن يكون «مجرمًا» بفعله، للتدليل على عدم أهليته للحكم ومن ثمّة الانخراط في دوّامة «الاقتلاع من الجذور» فكريّا على الأقل، قبل أن تحين (يومًا ما) فرصة إعمال السيف في الرقاب، كما فعل بن علي بمباركة أمريكيّة صريحة ومعلنة، بل هي مدفوعة الأجر، ومدعومة بالعدّة والعتاد، لينحصر «الاجتثاث» راهنًا في لعبة ذهنيّة أشبه بما هي لعبة «بلايستيشن» سياسيّة، حين يتمّ تدريب الذات في عالم الافتراض، في انتظار الانتقال أو هو النزول (يومًا ما) إلى «الواقع» أسوة بما جدّ في سورية ولا يزال من «تطهير» لا غاية من ورائه سوى التأسيس (كما هي نظريّة «الخمير الحُمر») بمولد «انسان جديد».

بحساب ما مرّ من أشهر وأسابيع وأيّام، منذ 25 جويلية 2021، عجز قيس سعيّد أو هو فشل في رسم طريق له خارج «اكراهات الواقع التونسي» ممّا مكّن حركة «النهضة» بأن تعايره بما كانت تفعل هي. كذلك عجز على تلبّس دور الماسك لما هو «المال والسلطة والسلاح» وبقي منذ بيان 25 جويلية الشهير، ضمن منطق «التشهير» بالخارجين عن الأخلاق والخارجين على القانون، على قاعدة أنّ «الحقيقة» وقود السياسة، في بلد تهاوى فيه الدخل، وقلّ فيه الرزق وشحّت الموارد، وجفّ فيه الضرع، لينجرف سؤال الساسة إلى البحث عن السابق بين «الاتكال على الشرعيّة» أو «العزم من خلال الحكم»، في حين ترفّع العامّة عن سؤال «أسبقية البيضة أم الدجاجة؟» لأن البيض صار من الكماليات والدجاج ممّا قد (ونقول قد) يؤذن بذبحه أضحية في العيد القادم.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي