من امرئ القيس إلى تبّون: من حاول ملكًا، أو مات، سنعذره…

18 يونيو 2020

رغم الاحساس العارم في الجزائر بأنّ المشهد القائم، يحمل مذاق مسار لم يكتمل، فيمكن الجزم (في المقابل) أنّ الجزائر عاشت منذ 22 فبراير، تغيّرات على قدر كبير من الأهميّة، جعلت البلاد والعباد تحقّق مكاسب لا يمكن إنكارها، ومن ثمّة بقدر الفخر بما تحقّق، بفضل الشارع/الشعب، بقدر الاصرار على الذهاب بالحراك الشعبي إلى منتهاه، الذي من أجله رأى النور، أيّ تحقيق الدولة الوطنيّة الراعية للحقوق السياسيّة والضامنة للعدالة الاجتماعيّة، التي بشّر بها بيان فاتح نوفمبر العظيم، ومن أجلها دفع ملايين الجزائريين أرواحهم عن طيب خاطر.

العمق الشعب الذي اكتسح الشوارع منذ 22 فبراير وما بعدها من الأسابيع، لا يمكن لا خداعه في جميع الأوقات ولا في كلّ المرّات، وبالتالي هو أشبه بنهر عات، يستحيل الخروج به عن مساره.

من الأكيد وما لا يقبل الجدل أنّ قوى داخليّة واقليميّة ودوليّة، ليس فقط منزعجة من انجازات الحراك وما قطع ضمن مساره، بل كذلك من سقوط «العصابة» الضامنة لمصالحها، وبالتالي ليس من «المؤامرة» القول بوجود «مؤامرة» تستهدف الجزائر (الدولة والنظام والشعب)، لكن الردّ على هذه التهديدات القائمة فعلا وحقيقة، لا يتمّ من خلاله «غريزة الانطواء» (على الذات) كما تفعل السلطة الجزائريّة حاليا، أشبه بالأب الذي لا يزال يستصغر ذريّته ويرى فيهم هشاشة وقلّة حيلة، والحال أنّهم كبروا واشتدّ عودهم، بل صاروا أشبه بعصيّ الحجاج بن يوسف، شديدة الصلابة وذات مرارة قاتلة.

لم يستوعب (بعد) العقل السياسي/العسكري/الأمني في الجزائر :

أوّلا : أنّ منطق «الاستفراد بالتفكير» زمن ما تقول السلطة أنّها «أزمة»، لم يعد قادرًا على اقناع الأعداد والنسب التي كانت قادرة على الاقتناع، زمن العشريّة السوداء مثلا. الجيل الثلاثيني والأربعيني الذي غلب على مسيرات الحراك، يريد «أن يفهم» وتكون له كلمة (بأيّ طريقة) في اتخاذ القرار.

ثانيا : منطق التصديق على بياض على ما تأتيه الحكومة من خطوات من زاوية أنّ «اللحظة حرجة» أو وفق المنطق الجزائري المعهود «مَا لَزِمْشْ تفهم» [لستَ في حاجة للفهم (من أجل التنفيذ)]، سواء جاء الأمر بفعل «علويّة السلطة» [بطبيعة الحال] أو هو «عقد الثقة» [المفترض]، لم تعد قادرة على تبرير تصرّفات عدّة، يملك شباب الحراك يقينًا أنّ نتائجها ليست فقط غير مجدية بل ضارة بالبلاد والعباد.

imagesعند الانتقال من التعميم إلى التخصيص، قطاعات واسعة لم تفهم ولن يستطيع أحد إقناعها كيف تمّ التخلّص من بوتفليقة (الرئيس) وضع عدد لا بأس به من «أزلامه» (أيّ العصابة) في السجن، دون إيقاف «الماكينة» التي كانت في خدمتهم عن العمل، أيّ «حزب جبهة التحرير الوطني» وكذلك «التجمّع الوطني الديمقراطي» وبقية «الدكانين السياسية»، التي يستحيل، بل اليقين قائم أنّ من سابع المستحيلات أن ينخرط «مناضلوها» [كما يسمّون أنفسهم] بأيّ صورة كانت في أيّ «مشروع بديل»، مهما كان، وبالتالي، هم أفرادًا ومنظومة يقفون وظيفيا ووجوديّا، ضدّ أيّ نفس إصلاحي/ثوري، مهما كان هيّنا. الأخطر أنّهم (بحكم عقليّة «الكارد» التي ترسّخت في جيناتهم) أصحاب قدرة على التلوّن وأخذ أيّ شكل، إلى حين إعادة التمكّن.

بقدر ما تهمّ التفاصيل بقدر السؤال والتساؤل عن «المشروع» الذي يحمله وبشّر به الرئيس عبد المجيد تبّون. جائحة كورونا، بما فتحت من قوس، نرجو اغلاقه، أخذت البلاد بعيدًا عن أسئلة لا تزال معلّقة. أسئلة أو بالأحرى هو سؤال عن رغبة/قدرة «القرص الصلب» الماسك لزمام الأمور في الجزائر [الظاهر منه وخاصّة غير المرئي] التأسيس لما يمكنه أنّ نسميها «الإجابة» المتوافقة مع مطالب الحراك الشعبي، الذي سيعاود التحرّك، طال الأمر أو قصُر.

فَشَلَ الحراك أو بالأخصّ القوى الشبابيّة فيه على التحوّل من «حركة مطلبيّة» ذات طاقة هائلة، إلى فاعل سياسي، قادر على تفعيل هذه الطاقة، سواء ضمن الأحزاب القائمة أو أخرى (يبتدعونها) تكون معبّرة عنهم، في استثناء لحركة «عزم» التي رغم تميّزها، لا يمكن أن تكون «الشجرة» التي تعفينا من السؤال عن أسباب غياب «الغابة»، أمر مقلق، ينمّ عن إدمان «لعبة الحراك» لذاتها وليس على اعتبارها مجالا وفضاء وأسلوبا، لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية.

منطق اللحظة وتغليب العصا وتفعيل كلّ أدوات الضبط والإحضار وحتّى الإيقاف التي تعتمده السلطة راهنًا، عاجز على الأمدين القريب والمتوسّط عن تأمين الاستقرار الفعلي والفاعل، فقط قد (ونقول قد) يجعل بعض الدوائر الأمنيّة (المكلّفة بالتنفيذ دون التفكير) تشعر أشبه بأيّ راع، أن وجود «الخرفان» في الزريبة أفضل من تركها ترعى على رسلها وخاصّة تعبّر دون رقيب أو حسيب.

منطق العصا والإيقاف، ينقلب عديم القيمة بمعنى القدرة على الردع، عندما يتحوّل إلى الأسلوب الأوحد للتعامل، بل هو قد (ونقول قد) يدفع أطراف إلى ركوب موجة «الاستفزاز» الذي بدأ يتحوّل الدرب الأوحد لدخول السجن ومن ثمّة الحصول عن صفة «مناضل».

«الدولة» (بمعنى المشروع الذي يحمله عبد المجيد تبّون) في حاجة إلى أمرين :

أوّلا : العثور من منطق الشراكة وتقاسم المهام ومن ثمّة المسؤوليات، على «أذرع مدنيّة»، تشكّل الامتداد الطبيعي له ضمن منطق وحدة التفكير وتقاسم المهام. من الغباء والسذاجة (مع احترام المناصب وحفظ المقامات) القول بأنّ بقيّة ما تبقّى من «جبهة التحرير» ومعيّته من «أحزاب الكادر» قادر على لعب هذا الدور، لأنّ مجرّد التفكير في هذه «المسرحيّة» لن ينتج عنه سوى «مشروع» لا يختلف عمّا خرج الناس ضدّه يوم 22 فبراير. لذلك على السلطة فتح حوار فعلي وفاعل مع القوى ذات المصداقيّة، ليس من باب الوصاية والتفرّد بتحديد السقف [أيّ سقف الاصلاحات]، بل (وهنا الأهميّة) أنّ «الدولة» كما «الحراك» لا يمكنهما لا الخصام ولا الدخول في صراع، لأنّ (بكلّ بساطة) ليسا من ذات «المعدن» وبالتالي، لا هذا يعوّض ذاك ولا ذاك يستثني هذا.

ثانيا : إعادة صياغة «منطق الدولة» خارج صيغ «الوصاية» والاستصغار والتفرّد بما هي «الفهامة» [بالمعنى الجزائري الصرف]، دون المساس قيد أنملة بما هي الثوابت المؤسّسة للدولة (المشروع والآلة).

تعيش الجزائر (الدولة والشعب) أزمة لا يمكن انكارها، وأشدّ دلائل الأزمة الإصرار على جعل «الأخر» مسؤولا عنها، والأخطر من ذلك الادّعاء بأنّ تجاوز الأزمة يتلخّص في التخلّص من (هذا) الأخر.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي