من «زرقة» كأس العالم إلى «صفرة» السترات: فرنسا بين رقصة الألوان…

9 ديسمبر 2018

عندما تعلن امرأة على القناة الأولى الفرنسيّة أن أولادها الذي لم يتجاوز أكبرهم سنّ الثامنة، انتقلوا جميعهم من تشجيع «الزُرق»، أيّ المنتخب الفرنسي لكرة القدم، إلى الوقوف بنفس الحماسة، أو أكثر وراء «الصُفر»، لون السترات التي صارت الرمز المميّز لحركة عفويّة انطلقت بمطلب تراجع الحكومة عن الترفيع في الضرائب الموظفة على المحروقات، لتتحوّل إلى حركة تمرّد علني ومفتوح على جميع الاحتمالات.

مثل جميع المواجهات/الصراعات/الحروب تأخذ الرموز وخاصّة الألوان بعدًا خاصّا بل محدّدا للهويّات المتوتّرة والمتصارعة، وأساسًا جدليّة المعركة، حين تحوّلت «السترة الصفراء» من «فرض» ألزم بها قانون الطرقات كلّ سائق، يرتديها إلزامًا، عند أيّ توقّف اضطراري، إلى (وهنا التحوّل الكبير، بل المحدّد) رمز وأساسًا «علامة/راية» أسوة بجميع الجيوش والجماعات المُقاتلة منذ غابر التاريخ إلى يوم الناس هذا.

وجب الإقرار أنّ الحركة الاحتجاجيّة لم تذهب في السعي وراء الرمز أبعد من المتوفّر أمامها. وقع الاختيار على «القاسم الجامع» بحكم القانون المنظم للطرقات، لتتحوّل «السترة الزرقاء» إلى اسم علم بل إلى رمز لهذا الانقلاب/التحوّل في المشهدين الاجتماعي.السياسي الفرنسي، الحامل لتأثيرات عميقة على المشهدين الداخلي والأوروبي خاصّة، إن لم نقل العالمي.

منذ الأيّام الأولى لهذا التحرّك الشعبي استغلت بعض وسائل الإعلام القريبة من السلطة أو السائرة في ركابه، اللون «الأصفر» للحديث عن «الحمّى الصفراء» La fièvre jaune، التي تحيل صورتها على «الفترة الاستعماريّة»، من غابات استوائيّة وقردة، أي (ذلك) «الأخر» المتخلّف (طبيعيا) عن «الرجل الأبيض/الأوروبي/الفرنسي»، ممّا يعني اللعب على الوعي بالتاريخ واستدعاء/استحضار «مركزيّة الغرب»، أيّ بالخلاصة هي (أيّ السترات الصفراء) من «خارج الهويّة الأوروبيّة».

def69c144e599a70b3c3b87095a11fd3-fougeres-nouvelle-journee-de-mobilisation-pour-les-gilets-jaunesكذلك الأمر بخصوص «الخطر (الدائم) الداهم الأصفر» Le péril jaune، الذي يحيل هو الأخر على الماضي الاستعماري والحرب الفرنسية على «الهند الصينيّة»، وصورة الهزيمة الثقيلة المذلّة بل المخزية التي ألحقها الجيش الفيتنامي بالجيش الفرنسي في «ديان بيان فو». كذلك، هناك استدعاء للصورة المرسومة (تاريخيّا) عن الصين والصينيين، وأساسًا الخوف الأوروبي «المتخيَّل» من عدد الصينييم. هذه الصورة النابعة مثل الأولى من «وعي استعماري» تقصي «السترات الصفراء» من الذات الفرنسيّة ليكونوا «غرباء» أو على الأقلّ لا شرعيّة لهم للقيام بما قاموا به.

أسوة بالدول جميعها، الغنيّة منها والفقيرة، الكبيرة والصغيرة، المتقدّمة منها والمتخلفة، لعبت فرنسا أو هي عزفت على وتر كرة القدم، ليس فقط لصناعة «وعي انتماء جامع» فقط بل لتحويل الأنظار عن المشاكل اليوميّة التي يعيشها الفرد الفرنسي العادي. استطاع منتخب فرنسا لكرة القدم أن يفوز بكأس العالم، ولعب الإعلام الفرنسي على مدى التصفيات التي طالت شهرًا كاملا على جعل «الزُرق» [الفريق] وعلى «الزرقة» [اللون] من أجل ادماج كلّ فرحة تلت كلّ مقابلة إلى رافعة تضيف «رصيدًا» إلى ما يشعر به أيّ فرنسي.

ما يصدم وما يثير العجب ومن ثمّة أسئلة علماء الاجتماع والسياسة، هو حجم «القيمة المضافة» التي قدّمها كأس العالم واستغلّها الإعلام والنظام، مقارنة مع الإنهيار السريع لهذا «الصرح» الذي تحوّل «نسيا منسيّا». بطريقة أخر: ما الذي يجعل «اللون الأصفر» ينتصر بالضربة القاضية على نظيره «الأزرق»؟؟؟ خاصّة وأنّ الأوّل نتاج فعل عفوي/غير منظم، في حين وقفت وراء «اللعب باللون الأزرق» دولة بخبرائها وعلمائها من اختصاصات شتّى وكذلك ماكينة النظام الاستهلاكي الرأسمالي الذي روّج للكرة ومن ثمّة «اللون الأزرق» رمزا للذهاب حدّ التخمة في الاستهلاك والاقتراض ومن ثمة الارتهان بالكامل لهذه المنظومة سواء في بعدها السياسي/الحزبي أو الاستغلالي/الاستهلاكي.

إذا كانت الملاعب والمكوث الجماعي أمام الشاشات يمثّل إضافة إلى ارتداء جانب غير هيّن من المشجعين للزيّ الرياضي الأزرق، فقد عبّرت الجماهير الغاضبة عن انتمائها بالأسلوب ذاتها: أيّ ارتداء للبدلات الزرقاء على اعتبارها في الآن ذاته هويّة مشتركة وجامعة، وأيضًا تعبيرًا بالعين ومن ثمّة الصورة عن حجم التظاهرة، وثالثًا احتلال «الفضاء العام» كما يحتلّ المشجعون مدارج الملاعب.

لم يخترع أصحاب السترات الصفراء البارود، بل لم يفعلوا سوى الأخذ بالأساليب القائمة ضمن المنظومة الرأسماليّة، أين للألوان رمزيّة سياسية/تجاريّة معلومة. فقط عمدوا إلى الأدوات ذاتها، أو نفس اللغة والمفاهيم بل الرموز. فقط طوّعوها خدمة لمشروع الرفض والنفي والقطيعة…


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي