هل «الشرعيّة الانتخابيّة» قادرة على اصلاح ذاتها في كلّ الحالات؟؟؟؟

31 ديسمبر 2022

الانطلاق من مبدأ : «من صعد إلى سدّة الحكم بصندوق الانتخابات، لا يغادر السلطة إلاّ من خلال ذات الصندوق»، يمثّل الأساس الصلب الذي تقوم عليه «الديمقراطيّة الليبراليّة»، التي تنصّ كذلك على أنّ «الشعب» (مصدر الشرعيّة) يمثّل الحكم والمرجع، والوحيد الذي يتولّى «المجازاة» (أيّ إعادة الانتخاب) أو «العقاب» (أيّ عدم الانتخاب مرّة ثانية).

من ذلك على كلّ «مخدوع» أن ينتظر الانتخابات الموالية لإسقاط من مارس الخداع، على قاعدة أنّ «الصندوق» وجدليّة الانتخابات، تمكّن من تجاوز أيّ «سوء تقدير»…

بصريح العبارة : «الديمقراطيّة (في شكلها الليبرالي الغالب حاليا) تملك قدرة إصلاح ذاتها بذاتها…

قRاعدة تقوم أو هي تتولّى نسف جميع نظريّات «الإصلاح من خارج الصندوق» وتعتبرها «محاولات انقلاب» بصريحة العبارة، على أساس أنّ صبر دورة انتخابية واحدة، أفضل على جميع المستويات من «انقلاب» مهما يكن حجم التزويق اللفظي الذي يصاحبه، وأيضًا وأساسًا، مهما حاز من الدعم الشعبي.

الإجابة عن سؤال : «هل «الشرعيّة الانتخابيّة» قادرة على اصلاح ذاتها في كلّ الحالات؟؟؟؟» تحدّد الموقف من أساسه، بعيدًا أو في قطيعة مع أيّ «جاهليّة» مقيتة (بالضرورة)…

التجربة «الديمقراطيّة» التونسيّة، وإن امتدّت على عشريّة بكاملها، تمكّن في الآن ذاته، من قراءة «واقع» هو «ديمقراطي» قطعًا، لأنّه يعتمد الصندوق فيصلا، وكذلك تمكّن من قراءة (وهنا لبّ السؤال) «مدى قدرة الآلة الانتخابيّة» على تنفيذ المطالب المرفوعة طوال الفترة التي فصلت بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، أي «شغل ـ حريّة ـ كرامة وطنيّة»…

لا شكّ ولا اختلاف أنّ مسار هذه التجربة التونسيّة أنتج أو بالأحرى قام على سلسلة من «البديهيّات» على قدر كبير من الخطورة :

البديهيّة الأولى : ردّا على المطالب «الثوريّة» التي حرّكت الشارع أثناء الفترة 17 ديسمبر/14 جانفي، جاء الردّ من خلال الوزير الأوّل حينها محمّد الغنوشي بأنّ «اسقاط رأس السلطة» يمثّل مدخلا للاستجابة للمطالب الشعبيّة، وكذلك جاء القول بأنّ على هذا «الشارع» أن يستعيض بما هي «الديمقراطيّة» [الذي تولّى الباجي قائد السبسي تنظيمها] عن «العنف الثوري» لفرز نخبة [المجلس الوطني التأسيسي] لتحقيق مطالبه.

البديهيّة الثانية : عجزت الديمقراطيّة في شكلها «الميكانيكي» عن مجرّد التأسيس لمنوال تنمية (وإن كان في شكل جنيني) يكون قادرًا عن تلبية هذه المطالب، بل سقطت كامل منظومة الحكم على مدى عشريّة كاملة في مستنقع «الإنقاذ» أيّ محاولة الحدّ من تبعات الانزلاقات الاقتصاديّة والتراجعات على مستوى المؤشرات جميعها.

البديهيّة الثالثة : انفصل «الشأن الديمقراطي» عن «الشأن الاقتصادي» بالكامل، وصار السعي وراء التأسيس الديمقراطي مطلبا في ذاته، بل هو المطلب الوحيد، حين صرّح راشد الغنوشي أكثر من مرّة، أنّ بناء الهرم الديمقراطي في تونس، سابق (بل هو شرط) لأيّ فعل تنمية في البلاد.

البديهيّة الرابعة : سقطت (أو تمّ اسقاط) نظريّة «البناء الديمقراطي» سابق لما قامت «الثورة» من أجله، أي «شغل ـ حريّة ـ كرامة وطنيّة»، بل صار المطلب الغالب والمسيطر يتمثّل في «تجنيب البلاد مزيدًا من التدهور الاقتصادي»….

قامت نظريّة «قداسة الشرعيّة» (لدى أصحابها) على أنّ الديمقراطيّة سابقة، بل هي شرط ضروري أو بالأحرى ملزم للمرور إلى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة…

 

السؤال الواجب طرحه وقد قامت على أساسه أو نقضه، عديد النظريات على مستوى العالم : هل تنبني الدولة (في أيّ بلاد) أشبه بالجنين الذي ينمو، وبالتالي يكون الاشتغال على الجبهات جميعها، أيّ الديمقراطيّة كما الاقتصاد، أم يجب أو هي استطاعة ترك مسألة الاقتصاد والتركيز على «الديمقراطيّة» أوّلا وأساسًا، لأنّها (وفق رأي أصحاب هذا المنهج) تمثّل شرط قيام اقتصاد عادل؟

استئناسا بالتجارب التي يعيشها العالم، حين وجب الاعتراف بقصر التجربة التونسيّة وعدم قدرتها على تمثيل المجال القادر على تقديم الأجوبة، يمكّن من النظر في هذا السؤال، وإن كان من الواجب «معرفيّا» (بالأساس) ترك مسافات الأمان، حين يمكن الجزم أنّ الديمقراطيات في العالم لا تشتغل وفق قاعدة «نسخ / لصق»…

البديهيّة الأولى على المستوى العالمي، تكمن في أنّ «الديمقراطيات الليبراليّة» عبر العالم الغربي (صاحب «الأصل التجاري» لنمط الحكم هذا) تعيش أزمة وجوديّة شديدة الخطورة، بل ذهب الامر حدّ طرح السؤال الذي أسّس له المفكّر الفرنسي «ماكس غالو» حين قال : «ما فائدة الدولة (وبالتالي بالانتخابات) إن كان من الممكن الاستعاضة عنها، بالإدارة القادرة على تصريف شؤون الناس؟»، علمًا وأنّ السؤال جاء بعد أن قضت بلجيكا 18 شهرًا دون حكومة.

هناك اجماع داخل الفضاء الغربي على أنّ الديمقراطيّة الليبراليّة تعيش أزمة خطيرة، أساسها عدم القدرة على «توزيع الثروة» بالحدّ الأدنى المطلوب، الضامن لعدم وقوع «هزّات اجتماعيّة».

طلاق هو بين «الماكينة الانتخابيّة» في أوروبا ومجمل الفضاء الغربي ومن ورائهما عديد التجارب (مثل تونس)، وبين واجب تأمين «العدالة الاجتماعيّة» في حدّها الأدنى، ليكون السؤال الهامّ والأكيد والمحدّد لجدلية الصراع القائم والقادم : «هل يمكن القبول والرضا والقناعة بديمقراطيّة لا تقوم أو بالأحرى لا تؤمّن الحدّ الأدنى من «الرخاء الاجتماعي؟؟؟»

السؤال خرج من بعده الفكري/الفلسفي حين ثار السترات الصفر، ظاهرًا بسبب الرفع في سعر المحروقات، وحقيقة بسبب عجز الليبراليّة الاقتصاديّة (وفي رواية أخرى رفضها) تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة.

لم تكن المواجهات الدمويّة فعلا، والتي عادت بفرنسا (وفق عديد الكتابات) إلى مناخات الصراع الذي تلا «الثورة الصناعيّة» في موفى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشريين، والتي أبدع إيميل زولا في تفصيلها عبر رائعته «جرمينال»، سوى المدخل الذي يؤمّن الآن في فرنسا ميدان الصراع «العنيف» بين الأطراف الاجتماعيّة بما في ذلك «الدولة» التي ارتفع عدد المشككين في دورها الأساسي، أيّ المعدّل لمطالب مختلف الأطراف، بمعنى أنّها صارت شريكا في المواجهة، ممّا ينفي عنها (وهنا لبّ السؤال) دور الضامن لجدليّة الممارسة الانتخابية (في شكلها الليبرالي الأمثل) أيّ «من صعد بالصندوق لا يسقط سوى بذات الصندوق» وكذلك «يتولى الناخبون من خلال الصندوق تكريم/معاقبة من هم في الحكم»….

عودا إلى الشأن التونسي، نجد المعادلة ذاتها، مع فارق جدّ خطير : السترات الصفر في فرنسا نزلوا إلى الشارع، مطالبين بالحفاظ على الامتيازات التي حصلتها الطبقة الشغيلة طول ما يعرف في فرنسا بتسمية «الثلاثون سنة مجيدة» Les trente années glorieuses، على خلاف تونس أين الدفاع عن مجرّد «أحلام» أو بالأحرى تمنيات لا غير.

لقائل أن يقول أنّ الصراع عامّة والصراع النقابي خاصّة لم يهدأ منذ الثورة الصناعيّة في أوروبا ومن ورائها بقيّة العالم الغربي، وبالتالي لا غرابة في أن يثور هذا هنا أو ذاك هناك، مطالبا بالحصول على مزيد من الحقوق أو الامتيازات، بل اعتبر عديد المفكرين أنّ الأزمة تكمن في غياب الصراع.

وجب عند هذا المستوى التفريق في جلاء والتمييز في وضوح، بين «الصراع» تحت سقف «الشرعيّة الليبراليّة» والاعتراف بحدودها، وأساسًا بنظام فرز النخبة السياسيّة الحاكمة [أي الانتخابات] مقابل كمّ متزايد في فرنسا (مثلا) صار على قناعة بأنّ تحصيل الحقوق مستحيل من داخل المنظومة، وبالتالي يكون لزامًا الدخول في عمليّة كسر العظم مع «الممسكين بالقرار السياسي».

التوازي مع الحالة التونسيّة جليّ وواضح : هل يمكن الاستهانة بما نرى من ارتفاع في أعداد «الكافرين» بالمنظومة السياسيّة (سواء الحاكمة أو المعارضة، مهما كان الانقلاب في المواقع)، وهل يمكن (أكاديميّا) تجاوز واجب السؤال من منظور علم الاجتماع السياسي عن «موقع» هذه الفئة من الشعب التونسي، التي لا تقدّس «الشرعيّة» والتي لا يمكن نكران وجودها أو التهوين من حجمها؟

في أوروبا ومن ورائها الفضاء الغربي بكامله، الطعن في «الليبراليّة السياسيّة» تجاوز بعد «النقد الوظيفي» إلى «السؤال الوجودي»، ودليل ذلك الجزم من قبل أعداد متزايدة من المثقفين بأنّ «سيطرة رأس المال المتزايد على وسائل الإعلام»، يفسد المعادلة من أساسها، حين صارت كبرى القنوات التلفزيونيّة، والمحطات الاذاعيّة والصحف وحتّى المواقع الالكترونيّة، بين أيدي عدد محدود من أباطرة المال والأعمال، ممّا دعا إلى اعتبار «الطبقة الإعلاميّة» مجرّد «كلاب حراسة جدد»، وهو شريط وثائقي Les nouveaux chiens de garde، فصّل بالدليل والحجّة والبيان ليس فقط تبعيّة «الذراع الإعلامي» لما هو «القرار الرأسمالي»، بل (وهنا الخطورة) قبول كبرى الأقلام في فرنسا تعديل الخطاب بقدر العطاء.

 

خلاصة :

الاجماع قائم في الفضاء الغربي على اعتبار الفساد المالي ومن ورائه الفساد الإعلامي، معطوفا على تراجع القدرة الشرائيّة لقطاعات متزايدة من المواطنين، ليس فقط مدخلا لطرح أسئلة وجوديّة عن «شرعيّة الانتخابات» من أساسه، بل انتقل بالسؤال من «ضرورة الامتثال لقواعد الليبرالية السياسيّة» إلى وجوب تحطيمها من الأساس، حين لا ينفع عقّار في ما أفسده الدهر.

التوازي مع الحالة التونسيّة، واضح وجليّ، ومن ثمّة يمكن الحديث عن «كلاب الحراسة» في مجال الإعلام، وكذلك المال الفاسد الذي سيطر على المجال السياسي، ليكون السؤال : «عن أيّ شرعيّة يدافعون؟»….


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي