هل ينجح قيس سعيّد أين فشل «الدساترة» و«الإسلاميون»؟؟؟

7 سبتمبر 2022

من منظور علم الاجتماع السياسي، وبقراءة متأنية منزوعة العواطف، يمكن الجزم أن وصول (المواطن) قيس سعيّد إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة لسنة 2019، مثّل صدمة لمن نظروا إلى هذا الأكاديمي صاحب الصوت الجهوري والقسمات الجادّة إن لم تكن قاسية، في صورة من «يزيّن» انتخابات تقوم على أساس دستور 2014، تمكّن وفق محتواها الليبرالي من هبّ ودبّ ومن شاء وأراد، أن يعلن ترشحه إلى الانتخابات. مجرّد إعلان سريعًا ما تحوّل في حالات عديدة إلى مجرّد «نكتة» جاءت أقرب إلى الهزل والمزاح الذي أدمن الاعلام «الليبرالي» بثّه من باب «الترويح» عن النفوس وجعل السياسة لا تتعدى أو تتجاوز مرتبة «الفرجة».

Rمثّل وصول هذا «الناسك» كذلك «صفعة» جدّ مدويّة على خدّ «دولة غرّة جوان 1955» التي أتى بها «الاستقلال الداخلي» وما تلاها على مدى عشرات السنين إلى تاريخ 24 جانفي 2011، أيّ 56 سنة. كذلك على خدّ (ما يسمّى) «الإسلام السياسي»، الذي تأكّد منذ 1976/1977 أنّه جاء إلى الدنيا لينازع الدولة التي أنجبها «الاستقلال الداخلي»، السلطة، بعد أن تقهقرت «فلول اليسار» إلى أسفل الدرك في ترتيب من يتنازعون السلطة في البلاد.

 

وجب التذكير أنّ «الوفاق» الذي أسّس له «لقاء باريس» بين «الشيخين» الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، لم يزد عن كونه مجرّد تعريف لشروط «الاشتباك» بين الطرفين، ممّا يحفظ هامش تقاطع يمكّن من تقاسم «غنيمة السلطة»، وكذلك يحدّد آليات «الفعل وردّ الفعل» بينهما، الذي وجب (وهنا لبّ «التوافق») ألاّ يضرّ بمصالح الطرفين، وبالتالي لا يقدّم خدمة مجانيّة لبقيّة اللاهثين وراء «قصعة» السلطة، في زمن عزّت فيه الموارد وارتفع عدد المقبلين على «الدولة/الغنيمة» والأخطر من كلّ ذلك، انعدامت أيّ قاعدة تنظّم «الفساد» وفق هرم بيّن ومحكم التنظيم، كما كان قبل تاريخ 14 جانفي 2011.

وسط هذا الإفلاس المشترك والمزدوج بين الغريمين، جاء قيس سعيّد (الشخص والمشروع) مجرّد نتاج طبيعي ومحصّل منطقي لما يمكن أنّ نسميه «حيرة مزدوجة» : الأولى حيرة «العقل السياسي» الماسك لمقدّرات السلطة في البلاد، وعدم وعيه أمام فقدان الرابط (بالمفهوم الميكانيكي) بين دستور، قيل أنّ العالم بأكمله لا يزال منبهرًا أمامه، وكذلك أمام «الديمقراطيّة» التي أنبتها، من ناحية، وبين الغضب الشعبي المتزايد أمام تردّي الأوضاع الاقتصاديّة، أكثر من ذلك، ليس فقط عجز «سدنة الديمقراطيّة» (الذي جاء بها «أفضل دستور في العالم») عن الوفاء بالوعود المقطوعة، بمعنى تلبية النداءات التي صدح بها المتظاهرون بين 17 ديسمبر و14 جانفي، بل (وهنا المصيبة) عجزوا عن المحافظة على «المكاسب» التي حصّلها نظام ما قبل 14 جانفي.

منطقيا، ومن منظور علمي بحت، يمكن الجزم أن الأوضاع التي أدّت إلى صعود الجنرال زين العابدين بن علي سدّة الحكم ذات 07 نوفمبر 1987، في صورة «المنقذ»، تأتي شديدة الشبه، مع اختلاف في الأدوات، مع وصول قيس سعيّد إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة.

لم تعِ مخلّفات «دولة 1955»، ولا «الكائن الهلامي» الذي أنتجه دخول حركة «النهضة» إلى الحكم، أنّ هذا «الطرف الثالث»، يستحيل احتواءه مثل ما هو الحال مع بقيّة «فرق البطولة» السياسيّة، والأخطر لا يمكن القضاء عليه من خلال ذات «الأسلحة» التي تمّ اعتمادها (في السابق) لإزاحة بقيّة المنافسين.

كما مثّل يوم 07 نوفمبر 1987 بارقة أمل لشعب بأكمله، كذلك كان الحال غداة اعلان نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011. ذات الشعور خامر قطاعات واسعة من الشعب التونسي ليلة 25 جويلية 2021، بأنّ البلد تقف أمام «منقذها»، مع فارق أنّ المنقذ زين العابدين بن علي ترجّل مكرها عن كرسي الرئاسة في قرطاج، بعد أن عرف نظامه عديد الهزّات، تاركا وراءه عدد غير هيّن من «الأزلام» الذين لا يزالون يرون في 14 جانفي 2011 «انقلابًا على الشرعيّة». كذلك حال «رئيس البرلمان» راشد الغنوشي، الذي هو كذلك ترجّل مكرها عن كرسي الرئاسة في باردو. مع العلم  أنّ خطاب أتباعه ومريديه ومن يشاركونه «البكائيات» لا تزال تدور منذ تلك الليلة، في فلك أنّ ما جدّ مجرّد «انقلاب على الشرعيّة»، يستلزم (مثلما تحلم عبير موسي وأتباعها)، تراجع «الانقلابيين» وعودة «الشرعيّة».

يكون السؤال عن مسار قيس سعيّد وبالتالي مصير المشروع الذي يرمي التأسيس له ومن ثمّة تركيزه في البلاد، خاصّة وأنّ عبير موسي، الممثل «الشرعي» لأيتام بن علي، تناصبه العداء بمعيّة راشد الغنوشي وأتباعه، حيث يقف هذا «الحلف» العجيب والغريب، متقاسمًا عداء قيس سعيّد، رغم العداء العلني بين ثنايا هذه «الجماعات» المؤلفة قلوبهم.

بحكم مسيرته ومساره، لا يزال قيس سعيّد في قطيعة على مستوى المفاهيم مع «أيتام 25 جويلية»، وكذلك في عجز عملي عن المرور من الفكر السياسي المؤسّس لرؤيته للدولة، إلى الإنجاز الفعلي والفاعل لهذا المشروع، لذلك نرى أنّ الرجل لا يزال يعيش «فوبيا» الأحزاب والتنظيمات ومجمل أشكال التنظيم السياسي الممكنة في البلاد، ومن ثمّة أعلن ولا يزال يؤكّد على أنّ «لا حزب له» بالمفهوم التنظيمي للكلمة، ليس فقط خوفًا من تبعات الارتباط بأيّ كيان سياسي، بل (وهنا لبّ المعادلة)، «فوبيا» الرجل من أنّ يتحوّل، أو هو ينحدر ليكون مجرّد «رجل سياسة» يرأس مجرّد «كيان سياسي»، أسوة بجميع اللاعبين على رقعة شطرنج رآها قيس سعيّد ونظّر لها، بل بنى نظريته للسلطة على أنّها (أيّ الأحزاب) سبب البلاء وأصل البليّة.


error: !!!تنبيه: المحتوى محمي